لقد بدأ منظري الترجمة في السبعينات من القرن العشرين بالابتعاد عن مناهج علم اللغة وطوروا ممارسات أوسع تنظُر للترجمة
من منظور اجتماعي وسياسي. تزامنت هذه التطورات مع “المنعطف الثقافي” المرتبط مع ظهور تطورات متعددة التخصصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
جورج شتاينر (George Steiner)
أفضل مساهمات جورج شتاينر المعروفة هو نموذج الترجمة بأربعة أجزاء “الحركة التفسيرية،”. لقد كان نموذجا طوره في كتابه “ما بعد بابل: جوانب اللغة والترجمة”[1] (After Babel: Aspects of language and translation)، وهو الكتاب الذي ولد اهتماما كبيرا في العقد أو نحو ذلك بعد نشره، ولكنه لا يلقى إلا اهتماما قليلا اليوم. لقد عرف عمل شتاينر الذي تضمن دراسات في التاريخ، وعلم التأويل الذي تضمن الأفكار الجديدة على النظرية العامة للترجمة، بنهجه الفلسفي الذي يتجنب طبيعة اللغويات البحتة لمعظم نظرية الترجمة في منتصف القرن العشرين. في الواقع، لقد أدرك نمو الطبيعة متعددة التخصصات لدراسة الترجمة، حيث علق بقوله أن “دراسة نظرية وممارسة الترجمة أصبحت نقطة اتصال بين التخصصات القائمة والناشئة حديثا” (Steiner, George. 1975: 250).
كانت مساهمة شتاينر الرئيسية في نظرية الترجمة في شكل “حركة تفسيرية” من أربع خطوات والتي بين فيها وصفا للترجمة كنشاط. الحركات الأربع هي: (1) الثقة (trust)، (2) العدوان (aggression)، (3) الدمج (icorporation)، و (4) التعويض (restitution) (Steiner, George. 1975: 296–303). تمثل الثقة في هذه العملية المتكونة من أربع خطوات، ثقة المترجم الأولية بأن هناك شيئا قيما في النص المصدر يستحق التوصيل لجمهور جديد. وسواءًا حدث ذلك بوعي أو بغير وعي، يجادل شتاينر أنه جزء أساسي من عملية الترجمة، لأنه بدون الثقة لن يكون هناك أي مغزى للترجمة على الإطلاق.
يلي ذلك خطوة العدوان (aggression)، الذي يستخدم فيها شتاينر استعارة من التعدين لوصف استخراج المواد من إقليم آخر، في هذه الحالة أخذ كلمات ومعنى اللغة المصدر من النص الأجنبي. يستحضر شتاينر هنا صورة القديس جيروم لمعنى النص المصدر التي يأسره المترجم، على الرغم من أن شتاينر اختار مصطلحات أكثر عدوانية: “إن المترجم يغزو ويستخلص، ويجلب للوطن” (Steiner, George. 1975: 298).
الحركة الثالثة، وهي الدمج، فتصف عمل المترجم بأنه امتصاص أو استيعاب النص المصدر في اللغة والثقافة الهدف. ويتم وصفها أيضا بأنها “تجسيد”، بمعنى الضم، والهضم أو الدمج، لما إذا ما تم إثراء الثقافة الهدف بالنص المصدر، أم أنها “شُوهت” بسببه ولذلك يرفضها في النهاية (Steiner, George.,1975:301).
وأخيرا، التعويض الذي يصف مهمة المترجم لتحقيق معنى الإخلاص في تحقيق التوازن لجعل النص الهدف بمثابة تمثيل للأصل، وبالتالي تعزيز مكانة النص المصدر. وهناك أيضا فكرة أن المترجم يحتاج إلى التكفير عن فعل النهب الذي حدث خلال الحركة العدوانية الثانية. يذكر شتاينر في هذه الحركة الرابعة، أن المترجم “يسعى لاستعادة توازن القوى، توازن الوجود الأساسي، الذي عطله فهمه التلائمي” (Steiner, George.,1975: 302). إن هذه الحركة الرابعة مهمة جدا حتى أن شتاينر يجادل بأن “الترجمة تفشل حين لا تُعوِّض” (417 Steiner, George.,1975: ). يبدو أن هذا التعليق مبالغا فيه بعض الشيء، وربما من الصعب جدا تطبيقه (كيف يمكن للمترجم التأكد أنه قد تم تحقيق التعويض؟). وعلى الرغم من أهمي عمل شتاينر، فإنه لا يزال ضمن مجال الدراسات الفلسفية للترجمة بدون تقديم مساهمات كبيرة في الأعمال اللاحقة للمترجمين.
الوظيفية والمنعطف الثقافي (Functionalism and the Cultural Turn)
يشير ما يسمى “المنعطف الثقافي” إلى حركة في العلوم الاجتماعية تدمج المسائل ذات الأعراف الاجتماعية والثقافية، والتاريخ والسياق مع تطور الدراسات الثقافية. يعود تاريخها إلى حوالي عام 1980، فقد شهد هذا “المنعطف” رفض للنظريات القائمة على التكافؤ اللغوي لصالح التركيز على الأمور غير اللغوية والتفاعل بين الثقافات، بحيث أصبحت نظرية الترجمة، التي كان وُينظر إليها سابقا كتخصص فرعي من اللغويات التطبيقية أو الدراسات الأدبية، تُعرف كنهج جديد متعدد التخصصات. وكما علق ثيو هيرمانز فإنه “كان أساسا يُنظر إلى الترجمة من حيث العلاقات بين النصوص، أو بين الأنظمة اللغوية. اليوم يُنظر إليها على نحو متزايد بأنها صفقة معقدة تجري في سياق تواصلي اجتماعي ثقافي. وهذا يتطلب أن نضع المترجم ككائن اجتماعي في الصورة تماما. (Hermans, 1996:26)
ويمكن تلخيص التطورات الجذرية التي ظهرت في هذا الوقت في التصريح التالي لإدوين جينتزلر (Edwin Gentzler):
لقد كان التغيرين المهمين في التطورات النظرية لنظرية الترجمة على مدى العقدين الماضيين هما (أ) التحول من النظريات الموجهة نحو النص المصدر إلى للنظريات الموجهة نحو النص الهدف، و(ب) الاتجاه لتضمين العوامل الثقافية وكذلك العناصر اللغوية في نماذج التدريب على الترجمة. كان أولئك الذين يدعون إلى المناهج الوظيفية روادًا في كلا المجالين. (Gentzler, Edwin., 2001:70)
يقصد جينتزلر بالنظريات الموجهة نحو النص المصدر مفاهيم التكافؤ التي تهيمن عليها اللغويات منذ منتصف القرن العشرين وما بعده، وخاصة نظريات نيدا الموصي بها في الستينات والسبعينات، حيث كرس في الواقع صفحات كثيرة لانتقاد مفهوم التكافؤ الحيوي. وبخصوص النظريات الموجهة للنص الهدف يتحدث جينتزلر عن المناهج الوظيفية مثل نظرية سكوبوس[2] (skopos theory). يشير “التحول لتضمين العوامل الثقافية” إلى نهج علماء الترجمة متعدد التخصصات المذكورين أعلاه، والذين دعوا إلى تحويل التركيز نحو نهج يأخذ في اعتباره المسائل الأوسع للسياق الاجتماعي والثقافي. إن ظهور المناهج الوظيفية ينبغي أن يجلب إلى الواجهة مجموعة متنوعة من الترجمات، اكون ملاءمة أكثر لغرض نص هدف معين في الثقافة الهدف.
نظرية سكوبوس (Skopos Theory)
من أشهر المناهج الوظيفية هي نظرية سكوبوس، التي طورها هانز فيرمير (Hans Vermeer) في أواخر السبعينات، وقد أصبحت نظرية سكوبوس أشهر المناهج الوظيفية. قام هو وكاتارينا ريس (Katharina Reiss) بتطويرها في كتابهما المنشور عام 1984، بعنوان “أسس النظرية العامة للترجمة” (Grundlegung einer allgemeinen Translationstheorie). كانت القاعدة الغالبة هي أن النص الهدف يُحدد بوظيفته (Reiss and Vermeer 1984: 119).
بالنسبة للوظيفيين (functionalists)، فإن ما يجعل النص الهدف “جيد” هو ما إذا كان يصلح للغرض، وعلى حد قول كريستيان نورد (Christiane Nord) فإن “الغاية تبرر الوسيلة” (Christiane, Nord., 1997:29). إن الهدف الرئيسي من الترجمة هو تشكيل نص هدف يكون وظيفيا في مجتمع الجمهور الهدف، ومن حيث الأهمية، فإن تحقيق التكافؤ مع النص المصدر يشكل أولوية أقل. لقد وصف فيرمير النص المصدر بأنه تم “خلعه” (Vermeer, Hans J., 1986:42). ونتيجة ذلك هو أنه لا يوجد ترجمة واحدة “صحيحة” ولكن توجد أغراض متعددة (skopoi) للترجمة. وبما أن هناك عددا لا حصر له من الجمهور الهدف المحتمل الذين يمكن الترجمة لهم، فإن هناك أيضا عدد لا حصر له من الأغراض المتعددة المحتملة (skopoi). “إذا توجّب أن يكون النص وظيفيا لشخص معين أو مجموعة من الأشخاص، فإنه يجب أن يكون متلائما مع احتياجاتهم وتوقعاتهم. إن النص “المرن” الذي يقصد به ملائمة جميع المستقبلين وجميع أنواع الأغراض سيكون حتما غير صالح لأي منهم بالتساوي، وأن أفضل طريقة لتحقيق غرض معين هي عن طريق نص مصمم خصيصا لهذه المناسبة” (Nord 2000:195).
يلاحظ سنيل-هورنبي (Snell-Hornby, 2006: 52) أن “هذا النهج يقرب كل من النص والترجمة: إن الترجمة المثالية الوحيدة لا وجود لها، وأي ترجمة تعتمد على أغراضها (skopos) ووضعها”. العواقب، بالتالي، تتضمن حدا لنقاش طويل حول أفضل طريقة لترجمة الإنجيل. يمكن للنهج الوظيفي أن يغلق المناقشة القديمة حول المزايا النسبية التكافؤ الرسمي (أو التوافق الرسمي) والتكافؤ الحيوي. كما لاحظ جينتزلر، فإن ظهور نظرية الترجمة الوظيفية يمثل لحظة مهمة في تطور نظرية الترجمة وذلك لكسرها سلسلة الألفي سنة من التنظير الذي يدور حول المحور المخلص مقابل الحر. يمكن للمناهج الوظيفية أن تكون إما أحدها أو الآخر، ويكون لا يزال صحيحا للنظرية، طالما أن النهج المختار كاف لهدف الاتصال. (Gentzler, 2001: 71).
ويجب التأكيد على نقطة أخيرة: على الرغم من أن نظرية سكوبوس غالبا ما تؤدي إلى الترجمة الحرة، فإن هذا ليس دائما نتيجة لاعتماد طريقة وظيفية. تغيب هذه النقطة أحيانا حتى عن علماء دراسات الترجمة: فقد لاحظ جينتزلر خطأ أن “الشيء الوحيد الذي يبدو أن الوظيفيين يصرون عليه هو أن النص المتلقي يجب أن يكون متماسكا، وطليق، وطبيعي” (Gentzler, 2001: 71). ولكن الطلاقة وطبيعية التعبير ليسا مطلوبين بالضرورة: تمكن مجموعة الوظائف المحتملة الترجمة الحرفية أو ترجمة المعاني: ” قد يكون احد الأغراض المشروعة هو التقليد الدقيق لتراكيب جمل النص المصدر، ربما لتزويد قراء الثقافة الهدف بمعلومات حول بناء الجمل” (Vermeer 1989: 229).
نظرية الملائمة (Relevance Theory)
يبني كتاب إرنست-أغسطس جوت (Ernst-August Gutt) في عام 1991 “الترجمة والملائمة: الإدراك والسياق” على عمل مسبق لسبيربر و ويلسون (Sperber and Wilson, 1986). يأخذ عمل جوت نهجا معرفيا للترجمة ينتمي إلى مجال علم اللغة النفسي. وعلى الرغم من عرض نظرية الملائمة هنا بمناهج وظيفية، فقد يجادل البعض أنها ليست نظرية وظيفية بالتحديد، كما أن جوت لا يصفها على هذا النحو. ولكنها موجهة نحو الثقافة الهدف وبهذا المعنى فهي عموما تتماشى مع الوظيفية حتى وإن ميزها أساسها النظري المعرفي عن غيرها من المفاهيم. يبدو أن فيرمير يوضع نظرية الملائمة في إطار وظيفي، مشيرا على سبيل المثال أنه من الأفضل اعتبارها نظرية فرعية من نظرية سكوبوس (Vermeer, 1996:65).
يُنظر إلى الاتصالات في نظرية الملائمة بأنها تعتمد على عمليات استنتاجية، بعكس نظرية نيدا التي ترى الترجمة من خلال عمليات فك الترميز وإعادة الترميز. النقطة الأساسية في نظرية الملائمة هي النظر للاتصال بأنه استنتاجي، ومتوفر من خلال مبدأ الملاءمة: الحد الأقصى من الفهم بالحد الأدنى من جهد المعالجة. ووفقا لجوت فإن “الادعاء الرئيسي لنظرية الملائمة هو أن التواصل الإنساني يخلق أساسا توقع بالملائمة المثلى، أي التوقع من جانب السامع بأن محاولته في الترجمة ستولد آثار سياقية كافية بأقل تكلفة للمعالجة” (Gutt, 1991:30).
يحدد جوت نوعين من الترجمة، المباشرة وغير المباشرة، والتي تعتبر قريبة عموما من تقسيم الترجمة الحرة والحرفية. الترجمة المباشرة حيث التي “يهدف فيها النص الهدف إلى أن يشبه تفسيريا النص الأصلي تماما” (Gutt, 1991:163)، أما الترجمة غير المباشرة فهي اصطلاحية أكثر، ويُنظر إليها بأنها الترجمة التي “تعطي التفسير المقصود بدون التسبب للجمهور في جهد معالجة غير ضروري” (Gutt, 1992:42). لكن نظرا إلى المساحة المخصصة للمشاكل المرتبطة بجهد المعالجة غير الضروري، يمكن للمرء أن يتصور أن جوت كان يميل إلى تفضيل الترجمة الغير المباشرة (الاصطلاحية)، ولكن في الواقع نجده يدعو بشكل مدهش إلى الترجمة مباشرة، على الرغم من أن مثل هذا النهج الحرفي سيؤدي طبيعيا إلى معالجة أكثر.
هذه وجهة نظر غريبة ولكنها ليست في مشكلة نظرية حد ذاتها، لأنه لازال باستطاعة المترجم أن يتبنى النظرية مع تفضيله للترجمة غير مباشرة. تأتي المشاكل من أماكن أخرى، كما أن الذي يبدو أنه مفقود في العمل هو ما يكمن وراء وجهة نظر اللغوية النفسية لكيفية تواصل الناس. وكما يبدو من كتابات جوت، فإن هناك القليل من حيث القيمة العملية: فهو يدعم الترجمة المباشرة، ولكنه كما يشير سميث فهو “على حد علمي لم يحاول توضيح ما ينبغي أن تكون عليه الترجمة المباشرة” (Smith, 2008:170) .
وقد علق وندلاند (Wendland, 1996:127) بأن نظرية الملائمة “ناقصة على نحو خطير فيما يتعلق بتوفير ما يلزم من المبادئ التوجيهية الثابتة (والمؤثرات السياقية المرتبطة بها) عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع مشاكل ترجمة محددة”. وبالمثل، فقد قيل أنه “إذا أراد [المترجمين] مساعدة مباشرة في شؤونهم اليومية، فلا ينبغي أن يتوقعوا إيجادها هنا” (Malmkjær, 1992: 306).
كما تم التشكيك أيضا في الأساس النظري نفسه حيث نُظر إلى المسألة الرئيسية حول جهد المعالجة بأنه ذاتيا جدا ولا يمكن قياسه أو تقييمه: “تبقى الصعوبة في هذه الفكرة برمتها: أنها معيار نسبي جدا في حد ذاته، لأنه كيف يمكن تقييمه ومن سيقيمه … كيف يمكن للمرء أن يحدد الدرجة النسبية للجهد العقلي المبذول أثناء التواصل، وبالتالي ‘الملائمة’ في هذا النقطة المرتبطة؟” (Wendland 1996:127–128).
دراسات الترجمة الوصفية
في حين ركزت فيرمير على إنتاج الترجمات، نجد أن منظر آخر، جدعون توري (Gideon Toury)، قد أكد على وصف الترجمات. لقد اقترب من دراسة الترجمة من وجهة نظر التحليل الوصفي المنهجي. لقد اعتقد أنه يمكن تطوير النظرية العامة للترجمة فقط على أساس الدراسة الوصفية للظواهر المتعدية كمهمة تجريبية. إن أفضل تلخيص لآرائه نجدها في كتابه “دراسات الترجمة الوصفية وما ورائها” (Descriptive Translation Studies and Beyond) المنشور عام 1995.
مثل منظري الوظيفية، تولى توري نهج الترجمة الموجه نحو الهدف، معتقدا أن الترجمات هي ظواهر تجريبية تنشأ في “نظام تعددي” أدبي للثقافة التي توجد فيها. نشأ مفهوم النظام التعددي في السبعينات مع ايتمار إيفين زوهار (Itamar Even-Zohar) في عام 1979، الذي صوره كمجموع النظم الأدبية ووسيلة لشرح الطريقة التي يتضمن بها الأدب ثقافة معينة. أهمية هذا القسم هو أن توري اعتمد مفهوم النظام التعددي لتحديد معايير الترجمة وأدرك بذلك عنصرا ثقافيا لفهم الترجمة.
على الرغم من أن توري تجنب اتخاذ نهج إملائي أو إرشادي فإن تحليله الوصفي للترجمة فيه الكثير من القواسم المشتركة مع منظري نظرية سكوبوس مثل فيرمير وريس، وهذا مثير للاهتمام نظرا لأنه يبدو أن عملهم في أوائل الثمانينات قد اُنتج بشكل مستقل وفي نفس الوقت تقريبا. وبكتابته من منظور عصر التكافؤ، علق توري بأن نظريات الترجمة هي غالبا موجهة نحو النص المصدر، وفي أغلب الأحيان، موجهة حتى نحو اللغة المصدر” (Toury, 1980:35). لقد كان الجديد هو فكرة تحديد المعايير الاجتماعية والاعراف الأدبية في الثقافة الهدف وبالتالي تمكين النصوص الهدف من أن تتشكل من خلالها.
لا يزال عمل توري حول دراسات الترجمة مؤثر للغاية، وربما أكثر من ذلك في الدراسات العلمانية التي نشأ فيها عمله. إن الفائدة للترجمة تكمن في البحث المستمر الهادف إلى تحديد المعايير أو الأعراف الاجتماعية الأخرى الموجودة بين القراء الهدف. وهذا، بدوره، من شأنه أن يساعد على انتاج ترجمة أفضل تهدف إلى تلبية احتياجات أولئك القراء.
التغريب ودراسات ما بعد الاستعمار
على خلفية وجهة النظر المفهومة أن الأعمال الأدبية تم توطينها تقريبا عالميا، جادل لورانس فينوتي (Lawrence Venuti) بقوة بأنه سيتم خدمة الثقافات الهدف بطريقة أفضل بترجمات التغريب (تلك التي تُظهر بوضوح الطبيعة الغريبة للنص المصدر). لقد نشر مخاوفه في كتابين تم تداولهما على نطاق واسع، هما: “اختفاء المترجم: تاريخ الترجمة” (The Translator’s Invisibility: A History of Translation) في عام 1995 و “فضائح الترجمة: نحو أخلاقيات الاختلاف” (The Scandals of Translation: Towards an Ethics of Difference) في عام 1998.
وبطبيعة الحال، فقد تمت الدعوة للتغريب في تاريخ الترجمة سابقا، كما بين فينوتي نفسه من خلال تتبع مصدر أفكاره إلى شليرماخر (Venuti, 2008: 19). ومثل غيره ممن سبقوه، يفهم فينوتي التغريب باعتباره استراتيجية ترجمة خطابية متعمدة لكسر عادات الثقافة الهدف عن طريق الحفاظ على روح “الآخر” للنص المصدر. يهدف التغريب إلى عرقلة أعراف الهدف بنص مُترجم أن يُخبر القارئ بغربة الأصل. في القيام بذلك، يتجنب فينوتي الميل إلى الثناء على الترجمات التي تُقرأ بسلاسة أو بطلاقة:
تتطلب الجمالية الشعبية ترجمات طليقة تنتج أثر وهمي للشفافية، وهذا يعني الالتزام باللهجة القياسية الحالية مع تجنب أي لهجة، تسجيل (register)، أو أسلوب يلفت الانتباه إلى الكلمات ككلمات، وبالتالي يستبق ما يحدده القارئ. ونتيجة لذلك، قد تمكن الترجمة بطلاقة من شغل نص أجنبي لجمهور قراء ما، حتى لو كان نص من أدب أجنبي مستبعد، وبالتالي بدء إصلاح قياسي كبير. ولكن مثل هذه الترجمة تعزز في الوقت نفسه اللغة الرئيسية والعديد من استثناءاتها اللغوية والثقافية الأخرى أثناء اخفاء نقش القيم المحلية. الطلاقة هي استيعاب الفن، وعرض تمثيل واقعي للقراء المحليين معكوس برموزهم وأيديولوجياتهم الخاصة كما لو كان مقابلة فورية مع النص والثقافة الأجنبية. (Venuti, 1998: 12)
وخلافا لانصار التغريب السابقين، يتبنى نهجا عدواني في تعزيز ترجمات التغريب، واعتماد تعبيرات من تاريخ الفصل العنصري والعلاقات العرقية لوصف ممارسة تدجين النصوص الأجنبية والثقافات الأجنبية في الثقافة الغربية. بالنسبة له، فإن المشكلة مع التدجين ليست مجرد التقليل من غرابة النص المصدر، ولكن أيضا حول قضايا أخلاقية متعلقة بالاستبعاد القسري للأجنبي: لاحظ هيرمانز (Hermans, 2009: 98) في كلمة “تدجين” انها “المصطلح مختار بجدارة ، مما يشير إلى كل من الغرور والترويض القسري”. وينبغي أن ينظر لفينوتي على أنه يضيف زاوية أخلاقية إلى أنصار التغريب في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر (لاحظ العنوان الفرعي لكتابه المنشور في سنة 1998: “نحو أخلاقيات الاختلاف”). وبهذه الطريقة، فهو يتبع أنطوان برمان (Antoine Berman)، الذي انتقد في مقال له في الثمانينات اتجاها عاما في الترجمة الأدبية لنفي الأجنبي. ويقول هيرمانز “إن الهدف الأخلاقي الصحيح لفعل الترجمة” هو “تلقي الأجنبي على أنها أجنبي” (Hermans, 2000[1985]: 285 – 286).
من خلال تأثير فينوتي يدرك علماء الترجمة بأن النقاش حول التدجين مقابل التغريب له أهمية رئيسية في هذا المجال. الكتب التمهيدية (على سبيل المثال، Munday, 2008) تتميز بأجزاء كبيرة تناقش عمله، ولكن الاعتراف بوجهات نظره ليس كاعتماد مبادئه، حيث كانت هناك انتقادات حول امكانية التطبيق العملي للتغريب وقابلية اختباره (Pym, 1996:171–174) . وعلاوة على ذلك، يميل فينوتي إلى تقديم نهج “كل شيء أو لا شيء” في الترجمة، حيث الاستراتيجية الصحيحة الوحيدة للترجمة هي التغريب. سوف يجادل الوظيفيين تغريب الترجمة صالح فقط عندما يكون هناك غرض ثقافة هدف واضح. في الأماكن التي تتطلب ترجمات تدجين أو تكون مرغوب فيها، فإنه لا يمكن تبرير تقديم ترجمة التغريب .
لقد أصبح قبول الأبحاث التي تغطي العوامل الاجتماعية والنفسية والسياسية شائعا في دراسات الترجمة بشكل متزايد خلال التسعينات. أشار ليو هيكي (Hickey, Leo., 1998:1 ) أنه “قد أصبح من الواضح أيضا، كما هو الحال في أي شكل آخر من أشكال إعادة الكتابة … أن [الترجمة] تعني التلاعب وترتبط مباشرة بالأيديولوجيا، والسلطة، ونظم القيم وتصورات الواقع”. تزامنت هذه الأسئلة حول التلاعب و أنظمة السلطة مع الاهتمام المتزايد في الواجهة بين دراسات الترجمة ودراسات ما بعد الاستعمار. هذا العمل له أهمية في ترجمة الكتب المقدسة حيث يحدث الكثير من النشاط في ما يسمى ثقافات الأقليات، ولكن ترجمة الأسلوب التي يوافق عليها فينوتي، التي يتطلب عنصرها الأخلاقي رفض التدجين، تعتبر أقل فائدة. تظل الحقيقة أن هناك حاجة إلى الترجمات الاصطلاحية، أو التدجين، وهي تستخدمها وتتبناها بسهولة العديد من الثقافات الهدف. أما المخاوف بشأن اختفاء المترجم فهي أيضا أقل أهمية بالنسبة لمترجمي الكتب المقدسة الذين من غير المحتمل أن يعتبروا النص الهدف وكأنه لديه مكانة مساوية للنص المصدر.
يتداخل مجال مناهج ما بعد الاستعمار في دراسات الترجمة مع فينوتي وغيره ممن دعم استراتيجيات التغريب. يعلق جينتزلر على النحو التالي:
بدلا من استخدام الترجمة بوصفها أداة لدعم وتوسيع نظام مفاهيمي قائم على الدين والفلسفة الغربية ، يسعى مترجمي ما بعد الاستعمار لاستعادة الترجمة واستخدامها كاستراتيجية للمقاومة، استراتيجية تُحول وتنقل بناء صور الثقافات غير الغربية وليس إعادة تفسيرها باستخدام مفاهيم التطبيع التقليدية واللغة. (Gentzler, 2001: 176)
تشمل الخطوط الرئيسية للبحث في نظرية الترجمة ما بعد الاستعمار دراسة كيفية ممارسة الترجمة في الثقافات الاستعمارية السابقة، والكيفية التي يتم بها ترجمة أعمال كتّاب المستعمرات السابقة؟ وكذلك الدور التاريخي الذي لعبته الترجمة في عملية الاستعمار.
لقد تمت دراسة مناهج ما بعد الاستعمار في ترجمة الإنجيل من قبل راسياه سوجيرثاراجاه (Sugirtharajah, Rasiah., 2001:63) الذي زعم أن توزيع جمعية الإنجيل البريطانية والأجنبية كانت بمثابة نوع من الأداة الاستعمارية التي استخدمت “لغرس” القيم والعادات الغربية. وبالمثل، يدعي هيفزيبا إسرائيل (Israel, Hephzibah., 2006: 270)، عند مناقشته لترجمات الإنجيل للغة التاميل في القرن التاسع عشر، أنه بغض النظر عن نقل الإنجيل بالعامية المحلية، فقد كان هدف المبشرين هو خلق هوية بروتستانتية للمتحولين الهنود. في كلتا الحالتين، هناك رأي بأن الترجمة تتجاوز النشاط المحايد وتصبح عاملا نشطا في القمع الاستعماري. قد يكون بعض هذه الاستنتاجات مبالغا فيه، مثل إصرار سوجيرثاراجاه أن نسخة الملك جيمس كانت تستخدم لاستدعاء النزعات القومية من خلال استخدامها من قبل البريطانيين كوسيلة لفرض الأخلاق المسيحية والحضارة الإنجيلية (Sugirtharajah, 2002: 135 – 148). ليس من المؤكد ما إذا كان الإنجيل الإنجليزي قد استخدم لهذا الحد في كل أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وعلى الأقل ليس في تاريخها كله، فهناك على سبيل المثال القليل من الأدلة على استخدام الإنجيل الإنجليزي كأداة للتعليم في مستعمرة هونغ كونغ.
الفرق بين مترجمي ما بعد الاستعمار ودعاة التغريب هو أن النوع الأول يفضلون ترجمات المقاومة كوسيلة لمواجهة الخلل في علاقات القوة بين المُسْتَعْمِر والمُسْتَعْمَر. في المقابل، يسعى أنصار التغريب عادة إلى تثقيف القارئ من خلال التأكيد على غربة الثقافة المصدر عبر ترجمة النص بطريقة تجعل أصوله واضحة.
من المرجح أن تثير مناهج ما بعد الاستعمار آراء متناقضة جدا بين الممارسين والمراجعين. يصعب الموافقة من منظور وظيفي على أنه يحب انتاج الترجمة دائما وفقا لإيديولوجيا ما بعد الاستعمار، لأن هذا سيفترض أن جميع القراء يرغبون في الترجمات المصبوبة والمكتوبة وفقا لأيديولوجيا ما بعد الاستعمار. هذا خصوصا هو الحال نظرا للنجاح الواضح لكل من ترجمات التكافؤ الحيوي والتكافؤ غير الرسمي في جميع أنحاء المستعمرات السابقة.
توضيح لا بد منه
عند وضع نظرية للترجمة يكون هناك غالبا عددا من المفاهيم الخاطئة التي تعتبر مشاكل بالنسبة لدراسة الاتصالات بين اللغات: أولا، فكرة أن الترجمة هي علم، وثانيا، الافتراض أن الترجمة تعتمد على نظرية اللغة التي تشمل جميع فئات النصوص، وجماهير القراء، وظروف الاستخدام. الترجمة ليست علم مستقل، ولكنها في كثير من الأحيان تمثل مهارات متخصصة ويمكن أيضا أن تتطلب الحساسية الجمالية. يجب أن يكون للمترجمين المهرة قدرة خاصة لاستشعار أقرب مكافئ طبيعي للنص، سواء كان شفهيا أو مكتوبا. ولكن الترجمة في جوهرها مهارة وتعتمد إلى حد كبير على مجموعة من التخصصات، مثل علم اللغة، الأنثروبولوجيا الثقافية، وفقه اللغة، وعلم النفس، ونظريات الاتصال. وعلى النقيض من العلوم المختلفة ، مثل الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، تعتبر الترجمة نشاط يمكن لكل الناس المتحدثين بلغتين أن ينخرطوا فيه بدون دراسات خاصة للإجراءات التقنية، لأنهم كثنائيي للغة مهرة فهم سرعان ما يشعرون بدرجة التكافؤ في النصوص المتشابهة.
ربما قد نكون في المستقبل قادرين على التحدث بعلمية أكثر حول الترجمة عندما نعرف المزيد عن الطرق التي يعالج بها الدماغ المعلومات وينقل بها المفاهيم من لغة إلى أخرى. بدون هذه المعلومات عن العمليات العصبية لا يمكننا أن نفهم حقا ما يحدث في أدمغتنا. مع ذلك يبدو بعض الأشخاص مهرة بشكل غير عادي في التلاعب بالكلمات والعبارات، والجمل. بالمعنى التقني يمكن القول أن النظرية التامة للترجمة تتألف من مجموعة من المبادئ العامة المترابطة لمطابقة المحتويات الدلالية للكلام. لا يقضي أفضل المترجمين سنوات في حفظ مجموعات المعاني المرتبطة، ولكنهم يتمتعون بحساسية منبهه بشكل لا يصدق لمعاني التعبيرات المقابلة في لغتين أو أكثر. في إحدى المرات سألت أحد زملائي الذين يدرسون الترجمة في ليبيا أن يخبرني بعدد المترجمين المشهورين الذين ساعد في تدريبهم في الجامعات الليبية، لكنه أجاب على الفور أنه لم يقم بتدريب أي مترجمين مبدعين. يبدو أن مثل هؤلاء الأشخاص يولدون بمهارات التكافؤ اللغوي والسلوكي.
المشكلة الأساسية التي تعيق صياغة نظرية كافية للترجمة هي حقيقة أن الترجمة تحدث فعلا في عقولنا، ونحن في الواقع لا نعرف بالتحديد ما يحدث بالفعل. كيف يستطيع الأطفال في عمر الخمس السنوات فقط غالبا الترجمة بمهارة في حين أن العلماء ذوي الخمسين عاما يواجهون صعوبات كبيرة. في كثير من الحالات يكون الناس الذين لم يسبق لهم دراسة مبادئ الترجمة مترجمين أكفاء أكثر بكثير من أولئك الذين ربما يكونوا قد درسوا الترجمة في بعض المدارس التي صممت خصيصا لمساعدة الناس على التعرف على أوجه الشبه والتباين اللغوي والثقافي. في الواقع، إن جهلنا بالمكافئات أو المتشابهات اللغوية والثقافية هو أكبر بكثير مما نود أن نقر به. لسوء الحظ، فإن معظم الكتب التي تتحدث عن الترجمة كتبها أشخاص خبراتهم أكاديمية إلى حد كبير. هل سنتعلم المزيد عن الاتصالات بين اللغات إذا درسنا استجابات الأطفال الذين يترجمون بدون تفكير على ما يبدو؟ ولعل قائمة المبادئ التالية يمكنها أن تساعد المترجمين الجدد في معرفة الطريقة المثلى التي تمكنهم من تعلم مبادئ وإجراءات الترجمة.
1. اللغة هي مجموعة من العادات اللفظية التي تمثل جوانب ثقافة. ليس هناك متحدث يمتلك مخزون كامل لعلامات وهياكل لغة حية، ولكن مجتمع المتحدثين مجتمعين يمتلكون لغة، ووفقا لذلك يمكنهم تغيير الصيغ . لكن يجب على الأشخاص الذين يرغبون في استخدام لغة مجتمع لغوي مختلف أن يتعلموا كيفية استخدام الكلمات بطريقة مقبولة ثقافيا.
لا يمكن للأشخاص الذين يعيشون معزولين عن بعضهم البعض الحفاظ على لغة لأن اللغات تفاعلية أساسا. على سبيل المثال، كان لزاما على العبيد السود الذين فروا من منطقة البحر الكاريبي إلى ساحل هندوراس تعلم لغة الهنود المسكيتو القاطنين على الساحل. لكن الاندماج كان واسعا لدرجة ان معظم السكان المحليين على طول ساحل هندوراس الآن يتكلمون لغة المسكيتو، ولكنهم سود في المظهر الجسدي.
2. يتم تعريف معنى الرمز اللفظي بطريقة غير مباشرة بكل الرموز المتباينة. على سبيل المثال، يتم تعريف معنى رموز حركة المرور من خلال كل الرموز الأخرى التي تشير الى حركة المركبات في الشوارع. وفقا لذلك، فإنه من غير الممكن أن يكون هناك مجموعة معينة من التعريفات. على سبيل المثال، في اللغة الإنجليزية يمكن تحليل الاستخدامات المتنوعة لكلمة “يهمس” (whisper) syntagmaticallyفي تعبيرات مثل:
They whispered in class. همسوا في الفصل
A whisper campaign. حملة الهمس
A stage whisper. همس المسرح
The breeze whispered through the trees. همس النسيم من خلال الأشجار
في المثال الأول هناك سبب لافتراض أنه لم يخرج صوت من الحبال الصوتية، بينما في التعبيرين التاليين عادة يمكن أن يكون هناك صوت ما، وفي المثال الأخير لن يكون الصوت نتيجة اهتزاز الحبال الصوتية.
3. عادة ما يحتوي السياق في أي نظام رمزي على معلومات أكثر من أي مصطلح رئيسي. هذا يعني أنه يتم استغلال السياقات المختلفة أكثر من وظائف المصطلحات بعينها. تبدو وظائف السياقات اللفظية واضحة في الاستخدامات المختلفة للفعل “ run” في اللغة الإنجليزية، على سبيل المثال:
The man ran fast. ركض الرجل بسرعة.
The crab ran up the beach. ركض سرطان البحر حتى الشاطئ.
The snake ran across the lawn. ركض ثعبان في العشب.
His heart is running. قلبه ينبض.
The bus runs between Madrid and Barcelona. تسير الحافلات بين مدريد وبرشلونة.
The line ran off the page. خرج السطر عن الهامش.
The play ran for three weeks. استمرت المسرحية لثلاثة أسابيع.
He is running for mayor of town. ينافس على رئاسة بلدية المدينة
His stocking is running. بدأ مخزونه ينفذ.
The well ran dry. جف البئر.
الطريقة التقليدية للتحدث عن هذه الاختلافات في المعنى هي (أ) تعيين مجموعة من المعاني لكلمة مثل الفعل “run”في الانجليزية وبعد ذلك ننظر سياقات المعنى الصحيح في كل حالة أو (ب) اختيار المعنى النموذجي الأساسي و استخلاص ملحقات المعنى من كل سياق.
لكن صياغة تعريفات المعنى ليست سهلة، وخاصة إذا كان المرء يحاول الجمع بين عدد من المعاني في مجموعة واحدة من الاستخدامات المترابطة. على سبيل المثال، يمكن للمرء تحديد المعنى النمطي للفعل “run”بأنه الحركة السريعة في الفضاء بواسطة القدمين التي تلمس السطح الداعم بالتبادل. ولكن هذا لا يساعد على فهم تعابير مثل “جف البئر” (the well ran dry) أو “نافس على رئاسة البلدية” (he ran for mayor). الكثير من دور اللغة الدلالي هو اعتباطي ومتخصص بدرجة عالية في الأشياء، والأنشطة، والحالات، والأغراض.
يتأكد قبول هذا النوع من التحليل الدلالي بالسياقات بعدد من القواميس المنتجة للمجتمع الأوروبي، ولكن التطبيق المخصص للنصوص ليس مشجع جدا. على سبيل المثال، في القاموس الإسباني El inglés jurídicoيتم في المعدل تم ترميز 12 من أصل 85 تعبير فقط بمصطلح واحد. للأسف، يجب فهم نسبة عالية جدا من المعاني اللفظية بعدد من 5 إلى 9 كلمات. لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئا، لأن هناك أشياء محددة عديدة، أنشطة وحالات تتطلب عبارات تعريفية تتكون من سلسلة من الكلمات والمصطلحات وليس مصطلح واحد.
4. لا يوجد مرادفات كاملة في لغة أو بين لغات مختلفة، ولكن يبدو أنه من الواضح أن مثل هذا التصريح غير صحيح لأن جميع القواميس تقريبا لها قوائم شاملة من المرادفات، مثل: “الأغنياء / الأثرياء” و “يركض / يتسابق”. ولكن مثل هذه المجموعات من المرادفات تقتصر عادة على مجموعة محدودة من السياقات. فمن السهل في اللغة الإنجليزية أن نصف الشخص نفسه بأنه رجل غني أو رجل ثري ولكن هذا القدر من التشابه في المعنى لا يمتد إلى عبارات من قبيل “تجربة غنية” و “خبرة ثرية”. حتى العبارات المترادفة مثل “they raced around the track” (تسابقوا حول المضمار) و “they ran around the track“ “ركضوا حول المضمار” دائما ما توحي تقريبا بتمييز في المنافسة.
ويصر العديد من الأشخاص أن العبارة الإسبانية “cooperación económica” (التعاون الاقتصادي) والعبارة الانجليزية “economic cooperation” (التعاون الاقتصادي) لها نفس المعنى بالضبط ، ولكن في أمريكا اللاتينية تفهم عبارة “cooperación económica” عموما على أنها تنطوي على المساعدة المالية، وغالبا بدون أي اقتراح لتسديد القرض.
5. كل اللغات والثقافات هي في عملية تغيير باستمرار، وتحدث مثل هذه التغييرات على جميع مستويات التراكيب. كان للعبارة الإنجليزية merry Mary married”“ (تزوجت ماري المرحة) سابقا ثلاثة أحرف علة أمامية مميزة في المقاطع الأولى من الكلمات الثلاث، ولكن مستوى هذا التمييز في الجزء الغربي من الولايات المتحدة وانتشار فقدان هذا التمييز في الجزء الشرقي من الولايات المتحدة هو دليل آخر على القوة اللغوية لبعض ميزات الاستخدام الصوتي في لهجات الإنجليزية الأمريكية. كما أن هناك أيضا عددا من التغييرات الهامة في الاستخدام النحوي. على سبيل المثال، كما أشار تشارلز فرايز (Charles Fries)، فإن الإنجليزية الأمريكية تستخدم عادة تعبير مثل “the boss told you and me to finish by noon” (أخبرني المدير وإياك بالانتهاء ظهرا) ولكن ناطقين اللغة الإنجليزية الأمريكية يستخدمون “the boss told you and I to finish by noon” بشكل متزايد .
6. تحدث تغيرات هامة على كل مستويات اللغة الإنجليزية الأمريكية، من الأصوات إلى الكلام، ولكن معظم المتكلمين لا يدركون إلى حد كبير ما يحدث. تخفي الإملاء القياسية للغة الإنجليزية حد كبير هذه الاختلافات، كما هو الحال في beat, bit, bait, bet, bat, bot, bought, but, boat, put, boot.. يتم فقدان معظم هذه الفروق الدقيقة في الكلام السريع. وعلاوة على ذلك، ينتشر عدم التمييز بين الاختلافات عند نطق الحروف الساكنة في نهاية الكلمة، على سبيل المثال، في أزواج الكلمات الآتية:
cab/cap,
kid/kit,
pig/pick
لا يعتمد معنى الكلمات في كثير من الحالات على السياقات النحوية ولكن على سياقات التواصل العملية. على سبيل المثال، قد تشير الكلمة الإنجليزية “stock” لعدد من الأشياء المختلفة، على سبيل المثال، الماشية، الأسهم المتداولة، والامدادات في المستودعات والمصانع. وقد يعتمد معنى كلمة في سياق معين على الاستخدام المحلي، على سبيل المثال، “jacket” و “blazer” .
غالبا ما تشير الاختلافات في النصوص إلى مستويات اجتماعية متباينة في استخدام اللغة، على سبيل المثال، الإبادة (extermination) والتصفية (liquidation) والتطهير العرقي (ethnic cleansing). للأسف يعتقد بعض الناس أنه إذا كان اسلوب النص لا يصل إلى مستوى عال نسبيا من المفردات والقواعد فلا يمكن أن يكون علميا أو صحيحا. غالبا ما يصر هؤلاء الأشخاص على تعبيرات مثل: Whom did you see? بدلا من Who did you see? أو Each student must turn in their term papers by Monday عوضا عن Each student must turn in his or her term papers by Monday .
ليس من السهل دائما تمييز الطبقات الأسلوبية للنصوص، على سبيل المثال، النثر الشعري والنثر الحر، والمحادثة، والمقابلة، والروايات، والقصص. ولكن في بعض اللغات يعتقد كتاب المشرق المحترفين أنه يمكنهم أن يقتربوا إلى الجمهور العام عبر عدم الالتزام بنمط معين من اللغة بشكل دقيق.
7. أحد الجوانب الهامة في اللغات والثقافات هو حقيقة أن للنماذج الأسلوبية دور مهم جدا في مجال الاتصالات، وأن الالتزام السليم بمثل هذه النماذج هو أمر حتمي، ولكن الكتابة الإبداعية لا يتم التحكم بها دائما بقواعد ثابتة. في الواقع، يحتاج التواصل اللفظي الابداعي إلى قواعد مرنة، كما أن الكتّاب المبدعين ينتهكون باستمرار التقاليد الجامدة لكي يجذبوا الانتباه، ويزيدوا تأثير ما يريدون ايصاله.
في الولايات المتحدة يتم تحذير العاملين في الصيدليات عادة من مغبة اقتراح طبيب محلي معين، ولكن بالنسبة للوافدين الجدد في المجتمع فيمكنهم توضيح أنه لا يسمح لهم باقتراح مزايا أطباء معينين، ولكن يمكنهم أن يخبروا الناس بالطبيب الذي يذهبون إليه عادة.
8. ربما يكون أهم جزء في تدريب المترجمين والمترجمين الفوريين هو المعرفة الوافية بالفئات المرجعية المختلفة: الكيانات (الناس والنجوم والجبال والأنهار والنباتات)، والأنشطة (التفكير، الكلام، المشي، السباحة، الرقص)، الحالات (ميت، حي، متعب، سعيد) والعمليات (يموت، يمرض، ينحط، يتحسن) والخصائص (كبير، صغير، جذاب)، والروابط (و، أو، على الرغم من ذلك، ولكن) … الخ. ومع ذلك، تنتمي بعض الكلمات إلى أكثر من فئة مرجعية. على سبيل المثال، في عبارة “راقص جيد” تشير الصفة “جيد” إلى القدرة على الرقص بشكل جيد وليس للإشارة إلى القبول الثقافي. كما إن بعض الكلمات تؤدي في المقام الأول وظيفة ربط الكلمات بكلمات أخرى، على سبيل المثال، كلمات مثل: لكن، مع ذلك، إذا، على الرغم، من أجل، حتى.
9. تعتبر بعض نماذج الخطابة العالمية مهمة جدا للمترجمين والمترجمين الفوريين. الفئات الأربع الأكثر أهمية في الخطابة هي السرد، الوصف، الجدل، والمحادثة. يتضمن السرد الروايات والقصص والتجارب الشخصية، التاريخ، السيرة الذاتية، أما الوصف فيصف ملامح الكيانات أو الأحداث المعقدة، والجدل هو في المقام الأول مجموعة من الأسباب تكون مع أو ضد تطور ما، في حين يكون من الواضح أن المحادثة هي الأقل تنظيما. يمكن أن تكون محادثات السياسيين معقدة للغاية لأنه لا يوجد أحد يعرف القواعد وعادة ما يسعى كل مشارك لمنفعته الشخصية.
ويمكن وصف الغرض من النص من حيث التأثير (الملاءمة، والابداعية أو الأصالة، والوضوح)، الجذب (الوحدة، الكمال، الملاءمة، وظروف التواصل)، والعوامل الجمالية (النظام، والتوازي، والتعبير المجازي، والإيقاع، والتوازن). لقد حاول عدد من الأشخاص تحديد نظرية للترجمة من شأنها أن تشمل جميع الاختلافات في النصوص والسياقات التاريخية والثقافية المتنوعة، والفئات المختلفة من المستقبلين، ولكن لا يوجد أي وصف لعمليات الترجمة نال قبول غالبية المترجمين.
أحد الصعوبات التي تواجه تقديم نظرية للترجمة هو حقيقة أن كل اللغات تعكس الثقافة التي تشكل جزءا منها. سيكون من الضروري قبل تأسيس نظرية عامة للترجمة أن يكون هناك نظرية للثقافة مقبولة عموما، وهذا هو أصعب بكثير من وضع نظرية قياسية موحدة للغة. إن كل من الثقافة واللغة هي أنظمة رمزية، ولكن بينما تتكون اللغة من رموز لفظية فقط، نجد أن الثقافة تشمل جميع أنواع المعتقدات والممارسات.
ومع ذلك، فمن المهم الإشارة إلى الطرق التي وصف بها مؤلفين مختلفين عمليات الترجمة بأنها وسيلة لمساعدة المترجمين على القيام بعملهم. ولكن مثل هذه المساعدة تمثل مجال واسع من النشاط ومبررات مختلفة تماما لعمليات ومبادئ الترجمة، حيث تشمل مبادئ الاتصال هذه فقه اللغة وعلم اللغة ونظرية الاتصال وعلم اللغة الاجتماعي.
منذ زمن القديس جيروم (Saint Jerome)، الذي كان لزاما عليه أن يدافع عن ترجمته اللاتينية للإنجيل، ركزت مبادئ الترجمة على النصوص الأدبية أساسا، وذلك ربما لأنها كانت النصوص الوحيدة التي تستحق الترجمة. كما قدم لوثر أيضا مساهمة هامة لنظرية الترجمة و وممارستها، ولكن أساسا من خلال ترجمته الخاصة للإنجيل. كما أن الكثير من العلماء الآخرين قد كتبوا كثيرا عن الترجمة أيضا، على سبيل المثال، ألكسندر فريزر تيتلر (Alexander Frazer Tytler)، غوته (Goethe)، شوبنهاور (Schopenhauer)، عزرا باوند (Ezra Pound)، ريتشاردز (I. A.
Richards)، بروير (Brower)، كواين (Quine)، أندريه فودوروف (Andre Fodorov)، مونين (G. Mounin)، ميستشونيك (Meschonnic) ، جورج شتاينر (George Steiner)، و توري (G.Toury).
وكثيرا ما يستشهد بوالتر بنيامين (G.Toury) بسبب إصراره على أن التكافؤ الرسمي ضروري، ولكن اقتراحه الاتصال عن طريق النصوص الفوقية (meta texts) لم يتلقى موافقة كبيرة. من ضمن المترجمين المهمين الآخرين ماري سنيل هورنبي (Mary Snell Hornby)، الذي حث على أن تكون الترجمة تخصص مستقل، وإرنست-أغسطس جوت (Ernst-August Gutt) الذي دعا إلى نظرية الملائمة (relevance theory). وكذلك لادميرال (Ladmiral) الذي ركز على العوامل اللغوية الاجتماعية، وأوسغود (Osgood) الذي نبه إلى العوامل اللغوية النفسية الشاملة. ساهم أسغود برؤى في مجال علم اللغة النفسي، كما يعتبر ميغيل أنجيل فيغا (Miguel Ángel Vega) المحرر للنصوص الكلاسيكية حول الترجمة.
لقد كتب كاتفورد (Catford) عن التوجه الوظيفي، واتبع مالون علم اللغة التحويلي (transformational linguistics). وفي الوقت نفسه، وظف نيدا علم اللغة المقارن لاكتساب المعرفة حول الخيارات اللغوية النادرة. كما يمكن للقارئ أيضا إلى مراجعة دراسات فيناي (Vinay) و داربلني (Darbelnay) المقارنة للغة الإنجليزية والفرنسية.
وقد أدخلت نظرية الاتصالات أيضا وجهات نظر مختلفة، وأكدت عوامل مثل وسائل الاتصال، أنواع الرسائل، المستقبلات، الضوضاء، وظروف الاتصال. لكن مبادئ الترجمة المستخدمة على نطاق واسع تركز على العوامل اللغوية الاجتماعية التي قدمها موريس بيرنيير (Maurice Pergnier)، لأننا موجودين أساسا في عالم اتصالات متعدد، ونحن بحاجة لنظريات تجعل عالمنا مفهوم لغويا وثقافيا.
الخلاصة
تتميز نظرية الترجمة في سنوات القرن العشرين الأولى بانبثاق المناهج الفلسفية التي أقرها أفراد مثل عزرا باوند و والتر بنيامين ولكن بحلول الخمسينات برز تطور واضح من منظور علم اللغة التطبيقي. ثم جاء بعدئذ العصر الذهبي لنظرية الترجمة المستندة على علم اللغة بسلسلة من المصطلحات والمفاهيم والتقنيات الجديدة في الخمسينات والستينات. كان أبرز الباحثين يوجين نيدا الذي اكتسب عمله نفوذا حتى فيما وراء الدراسات الدينية. وبحلول أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، بدأ الباحثون يتبنون أفكار من التخصصات الأخرى في العلوم الاجتماعية، كما تزامن “المنعطف الثقافي” مع تطوير المناهج الوظيفية في نظرية الترجمة. ولعل أبرزها هي نظرية سكوبوس، التي تم تطويرها وتوسيعها في وقت لاحق من قبل علماء آخرين يعملون من منظور وظيفي.
جلب النصف الأخير من القرن العشرين مجموعة هائلة من البحوث في ما يعرف الآن باسم دراسات الترجمة، التي خططتها ونظمها جيمس هولمز (James Holmes). وقد قيل على ظهور دراسات الترجمة هذه أن:
دراسة الترجمة في أشكالها المتعددة هي الآن حقل راسخ من النشاط العلمي، الذي كان يوما ينظر إليه على أنه هجين بلا مأوى في أحسن الأحوال، وبعدها كمجال متعدد التخصصات يفضل دراسته من خلال التخصصات القريبة منه (على سبيل المثال، علم اللغة النظري والتطبيقي، وتحليل الخطاب، والدراسات الأدبية، والأدب المقارن)، إلا إنها قد حققت الآن الاعتراف الكامل بها كتخصص قائم بذاته يمكن للتخصصات ذات الصلة بأن تشارك فيه بإسهامات حيوية. (Malmkjær and Windle 2011:1)
اليوم، يتضمن التخصص طائفة واسعة من الأبحاث ويعتبر العديد من منظري الترجمة أعمالهم كمتعددة التخصصات ومتعددة الثقافات، وتقترض كثيرا من مجالات مثل علم اللغة والدراسات الأدبية، والدراسات الثقافية، ودراسات ما بعد الاستعمار، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والعلوم السياسية.
نختتم هذ الفصل باثنين من الاقتراحات للمترجمين: أولا، أن يسعوا إلى فهم الترجمة وممارستها من المنظور الأوسع لدراسات الترجمة، وبدمج أفكار الباحثين الدينيين والعلمانيين، وثانيا، اتخاذ منهج وظيفي للترجمة يتحدد فيه شكل النص الهدف (على سبيل المثال، ما إذا كان اصطلاحي أو حرفي أو شامل للجنسين أو محدد الجنس) باحتياجات الجمهور الهدف.
[1] تم نشره أولا في عام 1975 وتم تنقيحه في عدة طبعات بعدها كان آخرها في سنة 1988.
[2] بطريقة غامضة قام نيدا في عام 1986 بإعادة تسمية “التكافؤ الحيوي” باسم “التكافؤ الوظيفي”. لا يتم استخدام التسمية الجديدة عموما في دراسات الترجمة التي تشير فيها كلمة “وظيفي” إلى منهجية موجهة للنص الهدف كنقيض للتكافؤ الحيوي الذي يعتبر منهجية موجهة للنص المصدر.