
نظرا للظروف الاقتصادية والسياسية، واستبدادية حكم القذافي الذي حارب الحركات والمنظمات المدنية كالأحزاب والحركات
الاسلامية وغيرها، وشجع القمع عبر لجانه ومحاكمه الثورية، انتشر الفساد وانحلّت العلاقة بين الوسائل والغايات التي استخدمها في خدمة أهدافه الداخلية والخارجية وخاصة في محاربته للقوى والفعاليات الوطنية. ومن ثم أصبحت الحياة السياسية والمدنية، وكل ما يتعلق بالشؤون العامة والخاصة، ينبغي أن يقوم على أساس العقيدة الثورية، وأن ترجع الحلول التي يتم صياغتها إلى نظريته المتمثلة في كتابه الأخضر، وأن هذه النظرية نصاً وتأويلاً، هي الوحيدة التي تتضمن الحلول الصحيحة التي يحتاجها المجتمع الليبي، بل والعالم أجمع.
ونتيجة لهذا الانسداد في آفاق الحلول السياسية والاقتصادية والثقافية تكلّس النظام السياسي الليبي واستمر تفتيت المجتمع المدني مما أدى إلى صياغة تصورات جديدة عن مفهوم الثورة، بل وقاد في النهاية إلى الاستعانة بالأجنبي للإطاحة بالقذافي، لأنه من وجهة نظر البعض، الفكر جاهز والحلول موجودة، وكل ما يتعين عليهم هو الدعوة، السلمية أو العنيفة، لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية. “لا يهم إن كان الأمر يتطلب التعامل بواقعية أو بعقلانية، لأن كل الأساليب ممكنة ومباحة مادام واقع الحال لا يتطابق والتعاليم الموجهة للسلوك والحركة، ومادام المجتمع تنظمه مؤسسات قهرية اضطهادية”[1]، وبالتالي يصبح العنف وسيلة لزعزعة الواقع وتحطيمه، وسلوك يُشعر فاعله بنوع من القوة والأهمية.
وكما يقول مصطفى حجازي فإن العنف ضد المتسلط يمد “بنوع من الاحساس بالقوة، التي تصبح رمز الحياة. المهمة الأساسية، أو المرحلة الحاسمة في هذه المجابهة هي في التغلب على خوف الموت. إن تحدي الموت وقهره يحمل في النهاية معنى الانتصار على القهر والرضوخ اللذين يعنيان موتا معنويا ووجوديا. منذ اللحظة التي بدأ فيها الانسان المقهور يتحدى الموت والظفر عليه يكون قد قلب، من الناحية النفسية الذاتية المحض، معادلة التسلط والرضوخ وانتصر على ذاته”[2].
في واقع ليبي أُهينت فيه كرامة المواطن وازدادت فيه ذاته وكبريائه انجراحاً بسبب الزلزال المرعب الذي أحدثته الانتفاضة على القذافي عام 2011، وفي مناخ فكري يتعالى فيه السياسيين وقادة المليشيات على المجتمع ولا يقيمون له اعتباراً، وينفصل فيه العقل عن التاريخ، وتهيمن فيه البيانات والخطابات والمواعظ والفتاوى المتطرفة، ولد الوعي النقدي في هذه البيئة الليبية مترددا وبحذر كبير. بل إن ليبيا التي كانت تشهد مسار اصلاحي نهضوي في الفترة ما بين 2008 – 2010، أصبحت تشهد اغتيالاً حقيقياً للعقل، وتكميماً لكل أنواع النقد، للحد الذي أصبح فيه تفكير الليبي شبه معدم وتجاوزته الأحداث الداخلية والخارجية. وإذا كان هناك من يزال يؤمن بانتصار العقل والفكر، ولا سيما من له علاقة بالسياسة بأي شكل، فإن الهم والحزن أصبح يرمي بظلاله على من ساهم بتنمية هذا العقل وانتاج عناصر هذا الفكر.
ولذلك لم يعد الغرب يستعمرنا فقط، أو يمارس علينا ما يريد من أشكال الوصاية، بل بدى يبذل قصارى جهده ليحرمننا من نوع الحياة الذي نرغب فيه، بل والميتة التي نحبذها أيضاً. لقد أصبح موتنا مفروض علينا دون أخذ رأينا. وفي النهاية فالأمر مرتبط بوجودنا الليبي أمام ذاتنا وأمام غيرنا، لأن كينونتنا قد بدأت في التلاشي ووجودنا تشتت عناصره وهجرت اطاره التاريخي وأعرافه المجتمعية التي كانت مسلّم بها منذ زمن غير بعيد، لترتمي في أحضان الأجانب الذين يعرفون كيف يستفيدون من وهنها إلى درجة المسخ العبثي.
فالاجتهادات المنطقية – أو التي تميل لأن تكون كذلك – بقدر ما تدعو لتحرير الذات الليبية وتأسيس الدولة وتنظيم مناحي الحياة المدنية وحركتها المجتمعية، بقدر ما نجدها تسقط في تبريرات لا منطقية كلما تعلق الأمر بالحوار الساخن أو الفشل أو التنازلات. بالاضافة إلى أنها تنتقص من قيمة كافة تصورات المفكر، سواء على صعيد الممكن الآني، أو على مستوى الفعل السياسي المبني على المنطق الفكري الذي قد لا يخضع بالضرورة لضوابط العقل.
إن نقد المحاولات العقلانية، وكشف أوجه القصور في فهم التحركات اللاواعية لكثير من أبعاد الحياة السياسية الليبية، لا يولدِّان اللذة النقدية أو الاستهزاء بالأقوال السلبية، بل وحتى رثاء حالة الفكر الليبي الراهن. وفي الحقيقة فإن كل ما يحدث الآن في ليبيا هو عبارة عن مأتم ننوح فيه على الفرص الضائعة، والقدرات العقلية والابداعية المهدورة، والثروات المنهوبة، والأرض المنتهكة. إن المرحلة الليبية الراهنة تستلزم إدراكنا لمصادر الشقاء واجتياز مرحلة الانفصام الوجودي بين ذاتنا ونفسها، بين فكرنا وواقعنا، وبين المنطقي والمتصور.
وفي الحقيقة لقد اهتز كيان المجتمع الليبي منذ سنة 2011، وبدأ نظام علاقاتنا وقيمنا بالتخلخل، وتبدلت طرق تصورنا وتنظيمنا. وبعدها برز الحديث عن هويتنا الليبية وكثرت التأويلات وتعددت الحلول، وكل وفق موقعه ومرجعياته وأهدافه. انبثق الحديث عن الهوية، في ظل هذا الزلزال الذي أصابنا، عن ذات معذبة تعيش مأساة فقدان تركيبة عناصرها، وتعاني من مشكلة وجودها. وفي سياق هذا التغيير الذي دمّر السائد، ظهر الخطاب التهويلي الذي يدل على اختلال المعايير والقيم والدلالات مما أدى إلى تعميق الاهتزاز في المعاني.
ويمكننا القول أن أشكال الخطاب الليبي منذ بداية التدخل الأجنبي عام 2011 استدعت مواجهات متكررة تنُم عن التوتر المأساوي الذي يكمن في لغة التحدّث عن حرية وهوية وكينونة الدولة الليبية، بل إن مختلف الحكومات الليبية المتعاقبة مازالت تفرض مرجعياتها على مواطني الشعب الليبي، وتستفيد بشكل مريع مما تسمح به مفردات اللغة العربية من تأثير وجداني وأسلوب عاطفي يهدف إلى جذب أفراد الشعب نحو سلطتهم السياسية لتحقيق مآربهم الشخصية ومتناسين بذلك مكونات الشعب الليبي الاجتماعية وطموحاته الذاتية.
على الرغم من كل الأهداف والطموحات التي يغازلها أو يلح في تبنيها الساسة والأطراف الليبية المؤثرة، فإن غياب نفس النقد في مشروع ثورة فبراير قد جعل منها تبقى، على الرغم من كل الألفاظ والعبارات الرنانة التي يتكلمون بها عنها، “امتداد لنفس المشروع السابق، مشروع النهضة التي لم تتحقق بعد”[3].
إن الثورة الفعلية في جوهرها هي تحقيق الوعي ورفع معاناة المواطن وحل مشاكل المجتمع وتحقيقاً لأهدافه وغاياته. هذا لن يتحقق إلا بصلاح ساستنا، وباختيارهم اختياراً يمكننا من تحقيق المستقبل عوضا عن العيش في الماضي، والواقع عوضا عن الوهم، وإذا قيل أن معضلة الحكم الراهنة وانتشار السلاح وتخييم شبح الحرب لا يساعد على ذلك، فأقول إن أوضاعنا ستكون دائماً غير ملائمة لأنها لو كانت ملائمة لما احتجنا إلى ثورة أصلاً.
[1] محمد نورالدين أفايه، المعقول والمتخيَّل في الفكر العربي المعاصر، المستقبل العربي، العدد 6 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992)، ص18.
[2] مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور، الدراسات الانسانية، علم النفس، ط 5 (بيروت: معهد الانماء العربي، 1989)، ص 52 – 53.
[3] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية، (بيروت: دار الطليعة، 1982)، ص 7.