ملخص
يدرس هذا الفصل تطور نظرية الترجمة ويسرد تاريخها من القرن العشرين وحتى الوقت الراهن . لقد تميز القرن العشرين بمساهمات نظرية كبيرة في مجالات الترجمة المختلفة. وقد كان لهذه المساهمات تأثير عميق على ممارسة الترجمة طوال القرن العشرين، وحتى الآن. لقد عمل الأفراد الذين ساهموا في الوضع الحالي لنظرية الترجمة في كل من دوائر الترجمة العلمانية والدينية، ويتناول هذا المقال المساهمات من كليهما. تشمل هذه المساهمات المناهج الفلسفية التي برزت في مطلع القرن العشرين، وعصر علم اللغة في الخمسينات والستينات، وظهور المدرسة الوظيفية ودراسات الترجمة الوصفية، وأخيرا، ظهور مناهج التغريب (foreignising) في فترة ما بعد الاستعمار.
مقدمة
يطلق على دراسة مبادئ الترجمة اسم نظرية الترجمة. تدرك هذه النظرية، استنادا إلى أساس متين لفهم كيفية عمل اللغات، أن اللغات المختلفة ترمّز المعنى بأشكال مختلفة، كما أنها تدل المترجمين على إيجاد الطرق المناسبة للحفاظ على المعنى أثناء استخدام الصيغ المناسبة لكل لغة. وتشمل نظرية الترجمة مبادئ لترجمة اللغة المجازية، والتعامل مع عدم التطابق المعجمي، والأسئلة البلاغية، وإدراج علامات الترابط، والعديد من المواضيع الأخرى الأساسية في الترجمة الجيدة.
هناك نوعان من نظريات الترجمة المتنافسة. الهدف السائد في إحداها هو التعبير بالضبط قدر الإمكان عن قوة ومعنى كل كلمة وعبارة في النص الأصلي، أما الهدف السائد للنوع في الأخر فهو انتاج نص لا يُقرأ كترجمة على الإطلاق وإنما يتحرك في ثوب جديد بنفس سهولة إصداره الأصلي. لا يمكن للمترجم الجيد تجاهل أيا من هذين النهجين بالكامل أبدا.
تقليديا لكي يؤدي المترجمين عملهم بنجاح، يجب عليهم أن يلبوا ثلاثة متطلبات مهمة. يجب أن يكونوا على دراية بالآتي:
· اللغة المصدر
· اللغة الهدف
· مادة الموضوع
ومن هذا المنطلق، يكتشف المترجم المعنى وراء النماذج في اللغة المصدر ويبذل قصارى جهده لإنتاج نفس المعنى في اللغة الهدف باستخدام صيغ وتراكيب اللغة الهدف. ونتيجة لذلك، فإن ما يُفترض تغييره هو الشكل والرمز أما المعنى والرسالة فيجب أن يبقيا بدون تغيير. (Larson, 1984)
لقد كانت احد أول المحاولات لوضع مجموعة من القواعد أو المبادئ الرئيسية المشار إليها في الترجمة الأدبية من قبل المترجم الانساني الفرنسي إتيان دوليه (Étienne Dolet) الذي وضع في عام 1540 المبادئ الأساسية التالية للترجمة (“La Manière de Bien Traduire d’une Langue en Aultre”) التي تعتبر عادة أنها توفر القواعد الأساسية للمترجم الممارس:
يجب أن يفهم المترجم تماما مضمون ونية المؤلف الذي يقوم بترجمة عمله. السبيل الرئيسي للوصول إلى ذلك هو قراءة كل الجمل أو النص بالكامل حتى يتمكن من تقديم الفكرة الذي يريد التعبير عنها في اللغة الهدف لأن أهم ما يميز هذه التقنية هو ترجمة الرسالة بوضوح وطبيعية قدر الإمكان. إذا كانت الترجمة لبلدان مختلفة فينبغي للمترجم استخدام العبارات الثقافية للبلد المعني. لأنه العبارة الثقافية مهمة حقا في هذه الحالة، وإذا لم يقم المترجم باستخدامها بشكل صحيح فسوف يساء فهم الترجمة.
يجب أن يكون المترجم على معرفة تامة باللغة التي يترجم منها ومعرفة ممتازة باللغة التي يترجم إليها. يجب أن يكون المترجم على معرفة واسعة بكلتا اللغتين حتى يحصل على التكافؤ في اللغة الهدف، لأن نقص المعرفة باللغتين سيؤدي إلى ترجمة بلا منطق ومعنى.
ينبغي على المترجم تجنب الميل إلى الترجمة كلمة بكلمة، لأن ذلك يدمر معنى الأصلي ويخرب جمال التعبير. هذه النقطة مهمة جدا لأنه إذا ما تمت الترجمة حرفيا فربما قد يتم نقل معنى أو فهم آخر في الترجمة. يجب ان يستخدم المترجم أشكال التعبير الشائعة الاستعمال، وأن يضع في اعتباره جمهور قراء النص المترجم، وان يستخدم أيضا الكلمات التي يمكن فهمها بسهولة.
بما أن هذا الفصل يتناول تاريخ نظرية الترجمة القرن العشرين، فسيكون من المهم توضيح أن هذا التحليل يمكن اعتباره (1) كتاريخ أساسي (فهو انتقائي وليس شامل) و (2) كتاريخ لنظرية الترجمة (وليس ممارستها). إن أي تحقيق في تاريخ الترجمة سيكون انتقائي بالضرورة، وذلك بسبب طبيعة تطورها الواسعة على مدى فترات متفرقة. القصد من ذلك هو التركيز على أهم المساهمات في المناقشات النظرية المتعلقة بنظرية الترجمة نفسها.
سيتم مناقشة التطورات الرئيسية التالية: النظريات الفلسفية للترجمة، ولا سيما الكاتبين عزرا باوند (Ezra Pound) و والتر بنيامين (Walter Benjamin)، وانبثاق عصر علم اللغة، الذي كان من بين أبرز مفكريه يوجين نيدا (Eugene Nida)، وظهور الوظيفية، أو ما يسمى بالمنعطف الثقافي، ودراسات الترجمة الوصفية، وأخيرا، مساهمات المفكرين في مرحلة ما بعد الاستعمار وكتّابها من أمثال لورانس فينوتي (Lawrence Venuti). لقد ساهمت كل هذه الحركات في ظهور دراسات الترجمة كعلم مستقل. وجهة النظر التي اتخذت في هذه المقالة هو أن الوظيفية جلبت أهم الإسهامات للنظرية الترجمة من حيث توفير أساس عملي لتعدد القراء المحتملين.
النظريات الفلسفية للترجمة
لقد شهد القرن العشرين تطور ملحوظ في تطوير نظرية الترجمة، وقع معظمه في الفترة التي تلت عام 1950، مع إنه هناك عدد من المساهمات الهامة التي حصلت في النصف الأول من القرن التاسع عشر. يمكن وصف تلك الفترة باسم “النظريات الفلسفية في الترجمة” التي كان أهم مفكريها عزرا باوند و والتر بنيامين والتي وصفها جورج شتاينر بعصر “التعريف والنظرية الفلسفية الشعرية” (Steiner, 1998:249). كان لديهم تأثير خاص على المترجمين التفكيكيين اللاحقين في فترة ما بعد الحداثة، ومن وجهة نظر هذه الأطروحة، فقد كانت وجهات نظرهم مؤثرة بشكل واضح على المنظرين اللاحقين أمثال لورانس فينوتي (Lawrence Venuti).
عزرا باوند (Ezra Pound)
لقد كان الشاعر المؤثر عزرا باوند (1885-1972) تجريبيا، وتنوع بين استراتيجيات التدجين (domesticating) و (archaizing)، لكن الموضوع المتسق عنده هو إصراره على أن الترجمة تسعى أولا لامتصاص وتحويل الأفكار من النص المصدر وليس إعادة إنتاج مجموعة من الكلمات.
وكما هو الحال في استراتيجيات التعامل مع اللغات القديمة (archaizing)، فإن النص الهدف الإنجليزي ليس بالضرورة قابل للقراءة، ولكن ذلك لم يكن هو الهدف. يمكن أن تقدم الطبيعة التجريبية لباوند، واستعداده لتغيير التركيز، وتحديه للمترجمين لرؤية أعمالهم كقوى خلاقة، أفكارا مثيرة للمترجمين المعاصرين، حيث توفر الثقافات الهدف المتنوعة نوع من النقاش المناسب الذي سينظر من خلاله إلى أعمالهم بطرق إبداعية جديدة.
والتر بنيامين (Walter Benjamin)
إن والتر بنيامين (1892-1940) هو الناقد الأدبي الألماني ، وعالم الاجتماع والفيلسوف الذي كتب مقال مؤثر جدا عن الترجمة في عام 1923 بعنوان “مهمة المترجم” (Die Aufgabe des Ubersetzers). لقد تم إنتاجه أصلا كمدخل إلى مجموعة من القصائد المترجمة (لوحات باريسينس لبودلير) وهو يرجع بوضوح لمؤلفي الرومانسية الألمانية مثل فريدريك شليرماخر (Friedrich Schleiermacher)، يوهان فولفغانغ فون غوته (Johann Wolfgang von Goethe) وفيلهلم فون هومبولت (Wilhelm von Humboldt). المحوري في وجهة نظر بنيامين هو حجة أن الترجمة لا يجب أن تكون إعادة إنشاء معنى النص المصدر. وبدلا من ذلك، فإن الترجمة عملت على مواصلة حياة النص الأصلي من خلال العمل معه. رأى بنيامين أن الترجمات تعطي “حياة آخرة” للنص المصدر وبالتالي فهي لا تحل محل الأصلي بل توسعه (Benjamin, Walter, 2000[1923]:15).
لقد كانت الترجمة الجيدة عند بنيامين تلك الترجمة التي تسمح لصوت الأصلي من التألق والتي تتم ليس من خلال محاولة محاكاة الأصلي ولكن بموائمة رسالة النص المصدر، وهذا يتحقق بطريقة أفضل من خلال الترجمة الحرفية. “الترجمة الحقيقية شفافة، وهي لا تخفي الأصلي، ولا تسرق أضواءه، ولكنها تسمح لللغة النقية، وكأنها معززة بوسطها الخاص، لتسقط على العمل الأصلي بكمال أكبر. هذا يكمن قبل كل شيء في القوة الحرفية عند ترجمة التراكيب اللغوية، و هذا يشير أيضا إلى الكلمة، وليس الجملة، كعنصر المترجم الأصلي” ( Benjamin, in Lefevere 1977:102).
والجدير بالذكر، أنه رأى أن ترجمات بين سطور الإنجيل هي المثلى التي كان يتطلع إليها: “نسخة ما بين السطور للإنجيل هي النموذج الأصلي أو المثالي لكل الترجمة” (Benjamin 1963[1923]:195).
للأسف، لم يتوسع بنيامين على سابقيه ولكنه ردد صدى أفكار باوند الذي دعا إلى النصوص “التفسيرية”، التي يتم فيها طباعة الترجمة بجانب النص المصدر حيث تتميز بخصوصيات النص والمصممة لكى تكون مفهومة مع السمات اللغوية الأجنبية للأصل. اقترح بنيامين أيضا أنه عند صياغة النص الهدف، فإن المترجم يشارك في إنشاء “لغة نقية” (Benjamin, 2000[1923]:18)، يكون فيها الشكل الفوقي هو معاني ما بين السطور ونموذجيا تتجنب العامية الطبيعية لقراء اللغة الهدف، وذلك باستخدام المواءمة، أو جسر بين اللغتين المصدر والهدف. لقد قيل أن هذا المثل الفلسفي الأعلى “موجه نحو المتخصصين النظريين أكثر من الممارسين وعملائهم، لأن الحاجة العملية لهذا النوع من الترجمة تميل إلى أن تكون محدودة” (Windle and Pym 2011:13). في الحقيقة، إن مثل هذه اللغة النقية يفترض وجودها مرة واحدة فقط في الترجمة الخاصة الموجودة فيها، ولا يمكن إعادة استخدامها أو تدويرها لأغراض أخرى، لأن وجودها يعتمد على وضعها كموائمة أو توافق بين النص المصدر والنص الهدف. وتعتبر الاستخدامات العملية لجميع هذه اللغات النقية محدودة فيما وراء وجودها في النصوص المترجمة نفسها.
ومثل باوند، فإن نهج والتر بنيامين لديه بعض الانتماء لشليرماخر وغوته وهمبولت، بقدر ما كان يتبنى استراتيجية الترجمة التي إما تؤكد أو تجعل الأصول الأجنبية للنص المصدر واضحة بطريقة ما، ولكنه يفعل ذلك بطريقة تبدو فلسفية أكثر. إنه يعتبر ترجمات التغريب (foreignising)، أو archaizing)) ليست مفيدة في وصف السياق الأصلي والبيئة للقارئ فقط، ولكنها بطريقة ما أفضل أو أنقى وتعكس “طريقة أرقى” للترجمة.
مارتن بوبر وفرانز روزنويج (Martin Buber and Franz Rosenzweig)
ما وراء النظريات الفلسفية لباوند وبنيامين، ظهر مفكرين آخرين خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولا سيما مارتن بوبر (Martin Buber: 1878 –1965) وفرانز روزنويج (Franz Rosenzweig: 1886 – 1929)، الذي تعاونا في ترجمة الإنجيل للألمانية في عشرينيات القرن التاسع عشر، ونشرت في في أجزاء في الفترة ما بين 1933و 1939، على الرغم من عدم انهائها. على الرغم من الاعتقاد أحيانا أنهم يمثلون “علامة بارزة في ترجمة الإنجيل” (Weissbort وEysteinsson 2006: 310)، إلا أنه يبدو أن وجهات نظرهم لديها القليل من التأثير العملي اللاحق على مترجمي نصوص الإنجيل، حتى بين المترجمين الألمان.
لقد انصب اهتمامهم على جعل القراء أقرب إلى عالم النص المصدر من خلال الاستخدام المبتكر للغة. وقد لخص ايفرت فوكس (Everett Fox, 1995: x) مبادئ الترجمة عند بوبر وروزنويج ، قائلا أنه ” على ترجمات الكلمات الفردية أن تعكس” جذور المعاني البدائية “، … ترجمة العبارات، والسطور، و يجب أن تحاكي الآيات كلها بناء الجملة العبرية، … و ينبغي أن تكون الشبكة الواسعة من التلميحات واللعب بالكلمات الموجودة في النص مفهومة بطريقة أو بأخرى في اللغة الهدف”.
وخلافا للمترجمين الآخرين الذين استفادوا من استخدام مجموعة من المرادفات الإنجليزية، يفضل بوبر وروزنويج التكرار المتعدد المتعمد لنفس الكلمات من أجل إعادة إحياء ما سماه ويسبورت وإينشتينسون (Weissbort and Eysteinsson) “الجو اللفظي” (Weissbort and Eysteinsson, 2006:310) للنص. كما ناقش بوبر استخدام ‘تقنية “الكلمة الرائدة” (leitwort) في محاضرة ألقاها في عام 1927 عندما قال:
أعني بالكلمة الرائدة كلمة أو جذر كلمة متكررة لهدف داخل النص أو سلسلة من النصوص أو مجموعة من النصوص. أولئك الذين يلتزمون بهذه التكرارات سيجدون أن معنى النص قد تكشف، واتضح، أو أنه قد تم تأكيده …. ربما يكون هذا التكرار المُقاس، والموافق للإيقاع الداخلي للنص، أو بالأحرى صادر عنه، أقوى من كل تقنيات توفير المعنى بدون توضيحه صراحة. (Buber and Rosenzweig 1994[1927]:166)
لقد أكد بوبر وجهة نظره في أماكن أخرى، وهذه المرة مع التأكيد على أصالة العمل:
لم يسبق أن تمت ترجمة “العهد القديم” من قبل كتاب يسعون للعودة إلى المعنى الأساسي الملموس لكل كلمة على حدة؛ وقد كان المترجمين السابقين قانعين بكتابة شيء “مناسب” شيء “مقابل” … نحن لا نأخذ على محمل الجد خصائص النص الدلالية فقط، ولكن الصوتية أيضا. أصبح واضحا لنا، وفقا لذلك، أن جناس وسجع النص الوفير لا يمكن أن يُفهم من حيث المصطلحات الجمالية وحدها؛ أن القطع ذات الأهمية الدينية هي التي يحدث فيها غالبا إن لم يكن دائما السجع والجناس، ولذلك فإن كلا من السجع والجناس هما اللذان يساعدان على جعل هذه الأهمية تظهر بصورة أكثر وضوحا. (Buber and Rosenzweig 1994[1927]:168)
تتشابه وجهات نظر بوبر وروزنويج مع شليرماخر وغيرهم ممن حاولوا إعادة الشعور بالأصلي الغريب. ومع ذلك لم تكن نتائجهم العملية ناجحة بالضرورة، وقد تمت الإشارة إلى أن تفسير الجذور العبرية المنطوقة تعتبر مهمة صعبة وتؤدي حتما إلى خلاف كبير (Fox 1995:x). وعلى الرغم من تقديم أفكار مثيرة لإمكانية خلق المناخ اللفظي، فقد كانت الجهود المبذولة للحفاظ على “الكلمات الرائدة” متطرفة إلى حد ما، وربما لهذا السبب، لا يبدو أن المفهوم قد تم تتبعه من قبل مترجمي الإنجيل اللاحقين.
عصر علم اللغة
في منتصف القرن العشرين، حدث تحول واضح في نظرية الترجمة، حيث أعلنت الفترة باعتبارها العصر الذهبي للتكافؤ اللغوي في نظرية الترجمة. وكان من أبرز المفكرين يوجين نيدا (Eugene Nida)، الذي أثبتت أفكاره أنها مؤثرة على منظري العلمانية وكذلك علماء الإنجيل. كما تضمنت الفترة غيرهم من العاملين من منظور لغوي مثل رومان جاكوبسون (Roman Jakobson)، جيري ليفي (Jiří Levý) و كاتفورد (J. C. Catford). على الرغم من انتشاره في البداية، فإن الحماس للتكافؤ اللغوي سيقل في وقت لاحق من القرن العشرين.
رومان جاكوبسون (Roman Jakobson)
كان عالم اللغة والمنظر الأدبي رومان ياكوبسون (Roman Jakobson: 1896 – 1982) أحد مؤسسي مدرسة براغ المؤثرة في علم اللغة البنيوي (structural linguistics). لقد كتب في عام 1959 مقال بعنوان “في الجوانب اللغوية للترجمة” (On Linguistic Aspects of Translation)، حيث قدم فيه ثلاثة مفاهيم تسمى الترجمة داخل اللغة، والترجمة بين اللغات والترجمة اللغوية الإشارية التي تم تعريفها على النحو التالي:
1. الترجمة داخل اللغة (intralingual translation) أو إعادة الصياغة وهي تفسير رموز لفظية برموز أخرى من نفس اللغة.
2. الترجمة بين اللغات (Interlingual translation) أو الترجمة بالفعل وهي تفسير رموز لفظية بلغة أخرى.
3. والترجمة اللغوية السيميائية أو الإشارية Intersemiotic)) أو التحويل وهو تفسير رموز لفظية برموز الأنظمة التي لا تحتوي على رموز لفظية. (Jakobson 2004[1959]:139)
بينما يقترب النوع الأول من إعادة الصياغة الفضفاضة أو التقليد فإن النوع الثاني وهو الترجمة بين اللغات فيمثل الفهم التاريخي التقليدي للترجمة، أما النوع الثالث، وهو الترجمة اللغوية الإشارية، فقد كان إبداعا حقيقيا بسبب مفهومها للعملية السيميائية التي ذهبت إلى ما وراء الكلمات. وكما أشار سنيل-هورنبي (Snell-Hornby, 2006:21) فإن “المهم لدراسات الترجمة، وفقا لتقييمها من منظور اليوم، هو أنه يتجاوز اللغة بالمعنى اللفظي ولا ينظر عبر اللغات فقط”. لقد تنبأ هذا ببعض الأعمال المعاصرة في الترجمة السيميائية ويوفر المدخلات المحتملة لأعمال الترجمة السمعية / البصرية.
في الواقع، أصبحت هذه الدراسات اللغوية السيميائية شائعة بشكل متزايد بين الباحثين في مجال الترجمة الذي من المرجح أن يجدوا موضوعات مثيرة في تطوير الترجمات التي تتضمن عناصر غير لفظية. على سبيل المثال سيكون كتاب الأطفال التي تلعب فيها الرسوم التوضيحية دورا رئيسيا يساعد على نقل المعلومات وعلى فهم النص الأصلي. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن نقول أن المنتجات الدرامية للإنجيل التي ظهرت مؤخرا لفنانين مثل ماركيز لافلين، تعتبر محاولات لغوية سيميائية لإشراك لتقديم معنى النص المصدر من خلال إشارات أو رموز غير لفظية.
جيري ليفي (Jiří Levý)
ومن ضمن مفكري مدرسة براغ كان أيضا المؤرخ الأدبي والمترجم جيري ليفي (Jiří Levý: 1926 –1967)، الذي كانت أشهر كتاباته “فن الترجمة” المنشور عام 1963 باللغة التشيكية، ومقالته باللغة الانجليزية عام 1967 التي كانت بعنوان “الترجمة كعملية اتخاذ القرار”. لقد تم الإعجاب بعمل ليفي على نحو متزايد عندما أدرك المنظرين لاحقا أنه يمكن تتبع العديد من الأفكار اللاحقة مثل الوظيفية، ونظرية الملاءمة والقدرة على التكلم في ترجمة الدراما في شكلها الجنيني في دراساته في الستينات من القرن الماضي.
على الرغم من أنه عمل أساسا من منظور الترجمة الأدبية والفنون المسرحية، فإن الكثير من أفكار ليفي تعتبر ملائمة لجوانب أخرى من دراسات الترجمة. لقد قسم منهجية الترجمة إلى فئتين “وهمية” (Illusionary translation) و “غير وهمية” (Anti-illusionary translation). الترجمات الوهمية، التي يفضلها هو، هي تلك التي تتم كتابتها كما لو كانت أصلية، ومكيفة للقراء المستهدفين بحيث تبدو وكأنها أدب من عالم الثقافة الهدف نفسه. أما الترجمة الغير وهمية فتحتفظ ببعض ملامح النص المصدر لكي تبلغ المتلقي بأن الوثيقة هي ترجمة. ، ولقد أكد ليفي خصوصا على الحاجة للتأثير الجمالي في الترجمة بحيث يتم إعادة تشكيل جمال الأصل بمصطلحات مكافئة: “إذن، بالنسبة للقارئ، تكون سمة الترجمة الهامة ليس الاحتفاظ الميكانيكي بالشكل، ولكن بقيمه الدلاليه والجمالية”( Levý, 2006[1963]:342).
هناك تشابه مشترك في كتاباته مع يوجين نيدا، الذي رغم أنه عمل بشكل منفصل، قد وصل إلى استنتاجات مماثلة حول أهمية تحقيق تماثل التأثير بين القراء الهدف. ولعله من المستغرب انه نادرا ما يجرى تناوله في المناقشات المعاصرة حول نظرية الترجمة، حتى بين أولئك الذين يدعون إلى ترجمات التكافؤ الاصطلاحي (Idiomatic equivalence) أو الحيوي (Dynamic equivalence).
يوجين نيدا (Eugene Nida)
يُعرف عالم اللغة الأمريكي يوجين نيدا (1914-2011) بأنه المنظر الأكثر تأثيرا في القرن العشرين لترجمته الإنجيل ومفهوم التكافؤ الحيوي المشهور ، الذي سميت لاحقا “بالتكافؤ الوظيفي” (functional equivalence). بدأ عمله في الترجمة في أربعينيات القرن التاسع عشر، ولكن نظرياته عن التكافؤ اشتهرت في الستينات من نفس القرن فقط عندما نشر على نطاق واسع أوصاف تقنية في كتابين: “نحو علم للترجمة (1964Toward a Science of Translating,) ونظرية وممارسة الترجمة (The Theory and Practice of Translation, 1969). لقد ميز بين نوعين من التكافؤ: الرسمي والحيوي أو الدينامي. يحاول التكافؤ الرسمي (سمي لاحقا، “المقابل الرسمي”) إعادة إنتاج البنية السطحية (surface structure) للنص المصدر بأقرب ما يمكن، أما التكافؤ الحيوي المفضل فيحاول إعادة إنتاج نفس استجابة القارئ بين جمهور القراء الهدف كما وجدت بين قراء النص المصدر (Nida and Taber 1969:24).
تأسست نموذج نيدا على صياغة نعوم تشومسكي للنحو التوليدي التحويلي (1957)، على الرغم من أن تشومسكي حذر في وقت لاحق من استخدام نظريته اللغوية في الترجمة: “إن وجود القواعد العالمية الرسمية الراسخة … يعني أن جميع اللغات مصممة لنفس النمط، ولكن لا يعني أن هناك أي توافق نقطة بنقطة بين لغات بعينها. على سبيل المثال، هذا لا يعني أنه يجب أن يكون هناك إجراء معقول معين للترجمة بين اللغات ” (Chomsky 1965:30).
ولكن بحلول عام 1965 وجد نيدا بالفعل أنها مفيدة، بعد التعديل، كأساس لنموذج ترجمة قائم على التكافؤ . ظهر أول بيان واضح للتكافؤ الحيوي في “منهجية جديدة لتفسير الإنجيل” (A New Methodology in Biblical Exegesis, 1952). ولقد تبع هذا من قبل الآخرين، مثل “مبادئ الترجمة كما يتضح من ترجمة الإنجيل” (Principles of Translation as Exemplified by Bible Translating, 1959)؛ الرسالة والمهمة (Message and Mission, 1960)؛ “ترجمة الإنجيل وعلوم اللغويات” (Bible Translating and the Science of Linguistics, 1963)؛ والأهم من ذلك، “نحو علم للترجمة” (Toward a Science of Translating, 1964).
وبعمل تشومسكي من منظور لغوي اعتقد أن كل اللغات لديها سمات بنائية عالمية كامنة متوافقة بينها. يمكن تحليل الجمل في لغة معينة وصولا إلى سلسلة من المستويات المترابطة التي يمكن تحليل كل منها بشكل فردي. لقد كان اهتمامه صياغة قواعد عالمية تحكم قواعد ونحو اللغة، ولكن نيدا اعتقد أن وجود أسس عميقة الجذور قد تمكن أساس علمي للترجمة بين اللغات. لقد رأى أن عمل تشومسكي له “أهمية خاصة بالنسبة للمترجم، لأنه عند الترجمة من لغة إلى أخرى يجب عليه الذهاب إلى أبعد من مجرد مقارنة التراكيب المتوافقة وأن يحاول وصف الآليات التي تم بها فك الرسالة الإجمالية، ونقلها، وتحويلها إلى تراكيب لغة أخرى” ( Nida 1964:9).
في الواقع لم يتبنى نيدا سوى جزء من نموذج تشومسكي، وقام بتبسيطه بحيث يمكن استخدامه لأغراض الترجمة. لقد بدأ فقط بأخذ العناصر المتعلقة بتحليل وإعادة بناء الجمل وعكس ترتيب الطريقة بحيث يمكن استخدامها في التنظير على النقل من لغة إلى أخرى:
يقوم النحو التوليدي على بعض جمل جذرية (نواة) أساسية، تبني منها اللغة بنيتها التفصيلية من خلال تقنيات مختلفة من التحويل، والاستبدال، والإضافة والحذف. إن وجهة نظر التي ترى اللغة كجهاز توليدي تعتبر مهمة للمترجم، لأنها توفر له لأول مرة تقنية لتحليل عملية فك رموز النص المصدر، وثانيا لأنها توفر له إجراء لوصف توليد التعبيرات المقابلة المناسبة في اللغة المستقبلة. (Nida 1964:60)
لقد بسط نيدا نموذج تشومسكي المتعدد التراكيب في تركيبين اثنين فقط، وهما “البنية العميقة” أو التركيب العميق (deep structure) و “البنية السطحية” أو التركيب السطحي (surface structure)، وافترض أن المترجم يتحرك بينهما في عملية نقل المعنى عبر اللغات. لقد تم فهم التركيب العميق على إنه السمة الأساسية الكامنة للاتصال التي تحتوي على كل المعنى الدلالي في نص ما، لأنه يخضع لقواعد تحويلية يتم تطبيقها من قبل المترجم لكي يتم نقلها عبر اللغات وعند اكتمال عملية النقل يتم تطبيق مجموعة من القواعد الصوتية وقواعد بناء الكلمات حتى يتم توليد التركيب السطحي (Nida 1964:57–69).
ويوضح الشكل 1 كيف يتم تحليل النص المصدر على المستوى السطحي حتى يمكن التعرف على التركيب العميق قبل تحويله وإعادة بنائه لغويا وأسلوبيا في تركيب سطحي مناسب في اللغة المصدر.
العامل الأول هو أن الإجراء يجب أن ينتج “ترجمة تُنقل رسالة النص الأصلي إلى اللغة المستقبلة بطريقة تكون فيها استجابة المستقل هي نفسها استجابة القراء الأصليين أساسا” (Nida and Taber 1969:200). وبالتالي، يجب على المترجم التأكد من الأثر المحتمل للنص المصدر على القراء الأصليين وإعادة إنشاء الأثر المماثل على الجمهور الهدف من خلال النص الهدف.
العامل الثاني المهم هو أن إعادة البناء يجب أن تولد تركيب سطحي يبدو أصليا للقراء الهدف: “تتكون الترجمة من الاستنساخ في اللغة المستقبلة لأقرب مكافئ طبيعي لرسالة اللغة المصدر ، أولا من حيث المعنى وثانيا من حيث الأسلوب” (Nida and Taber 1969:12).
لقد فضل نيدا التكافؤ الحيوي، وكان تأثيره على جهود ترجمة الإنجيل لاحقا هائل، فكما يلاحظ كيرك بحق، فإنه “على الرغم من الانتقادات المتزايدة [للتكافؤ الحيوي] في التسعينات فهو لا يزال أساسا لمعظم الأعمال الجديدة لترجمة الإنجيل، وخاصة الأعمال في اللغات الأقل شهرة” (Kirk, P. 2005:91).
كاتفورد (J. C. Catford)
في عام 1965، نشر كاتفورد (1917- 2009) كتابه “النظرية اللغوية للترجمة” (A Linguistic Theory of Translation)، الذي حاول فيه استخدام النموذج اللغوي لهاليدي وفيرثيان (Hallidayan and Firthian linguistic model) كأساس لنظرية ترجمة عامة. لقد ذهب إلى أبعد من نيدا وغيره في تبني الأفكار والمصطلحات من علم اللغة، وأصر على أن “نظرية الترجمة هي في جوهرها نظرية علم اللغة التطبيقي” (Catford 1965:19). يبدو أن هذا الشعور مقيد إلى حد ما لدراسات الترجمة المعاصرة، حيث قد يكون النهج المفضل أكثر هو النهج المتضمن للعناصر الاجتماعية والثقافية.
لم يكن تعريف كاتفورد للترجمة نفسها ثوريا، وهي عنده “عملية استبدال نص في لغة واحدة بنص في أخرى” (Catford, 1965: 1)، لكنه قدم عددا من التعريفات التي قسمت وفرّعت الترجمة إلى معايير مختلفة. كان أهمها فكرة الرتبة النحوية، التي أضاف فيها مفهوم التكافؤ عن طريق إدخال الفئتين التاليتين:
1. الترجمة المقيدة بالرتبة: هنا، تتلقى كل كلمة أو مورفيم (morpheme) في النص المصدر كلمة أو مورفيم مكافئ، مما يمكن من التبديل الدقيق.
2. الترجمة غير المقيدة: هنا، لا يحدث التكافؤ في نفس المستوى أو المرتبة ولكن يمكن أن يتم التبادل على مستوى الجملة، العبارة أو مستوى آخر.
كما قدم كاتفورد تمييزا بين التوافق الرسمي والتكافؤ النصي. التوافق الرسمي هو “أي فئة في اللغة الهدف (وحدة، فئة، تركيب) يمكن اعتبارها تشغل نفس المكان تقريبا في اقتصاد اللغة الهدف كالذي تشغله الفئة المعنية في اللغة المصدر “( Catford 1965:27). وبما أنه قد لا يكون في عملية ترجمة لغة هدف توافق رسمي، فيمكن أن يحدث “تحول” (1965: 73) يحصل بموجبه التكافؤ على مستوى أكثر عمومية. وبالتالي يستخدم المترجم مكافئ نصي يُعرّف بأنه “أي نص في اللغة الهدف أو جزء من النص يتم الاحتفال به في مناسبة معينة ليكون مكافئا لنص أو جزء من نص في لغة مصدر معينة ” (Catford 1965:27).
لقد مثل عمل كاتفورد محاولة تفصيلية لتطبيق الدراسات اللغوية في نظرية الترجمة بطريقة منهجية. ومن الملفت للنظر، رغم ذلك، أن الكتاب المعاصرين رفضوا أفكاره بالإجماع تقريبا، لأن النظرية كانت في معظمها إملائية جدا، وببعد واحد (حيث أنها تعمل أساسا على مستوى الجملة)، ويميزها الاهتمام المتزايد بالترجمة الآلية في الستينات التي تميل إلى تبسيط الترجمة من خلال تجاهل العوامل الثقافية. حتى مع بداية الثمانينات، بعد أقل من 20 عاما على نشرها، فقد رفض أحد المراجعين كتابه لأنه “يخص الاهتمام الأكاديمي التاريخي إلى حد كبير” (Henry 1984:157، استشهد به في Munday 2008:61).