تخطى إلى المحتوى

العولمة وتأثيرها على صناعة الترجمة

مقدمة

يمكن الحديث عن العولمة في سياقات كثيرة كالتجارة الدولية، والثقافة، والإعلام، والمنتجات، وأخيرا، اللغة. ومع ذلك، فإن المفهوم نفسه واسع وقد تختلف تعاريفه وفقا للسياق. وكما يوحي اسمها، فإنها تعني التحرك من المحلي إلى العالمي. ومن خلال التقليل من العوائق، مثل الوقت والمسافة، فقد تم إزالة العنصر المادي من الفضاء، وأصبح من الممكن الوصول للمعلومات بنقرة بسيطة من فأرة الحاسوب. وأصبح العائق الأخير المتبقي الذي يجب التغلب عليه، وهو اللغة، أكثر وضوحا ومن الضروري معالجته. وكما يقول مايكل كرونين، الخبير في العولمة والترجمة، فإن الترجمة “تشكل جزءا أساسيا من الكيفية التي تعمل بها الظاهرة وتعكس بها معنى نفسها”. وبالتالي فإن العلاقة بين العولمة والترجمة هي دائرية. إن فتح الطريق أمام التجارة الدولية لم يكن ممكنا بدون الترجمة؛ وبالمثل، فإنه العولمة أدت إلى زيادة الطلب على الترجمة بشكل ملحوظ.

فما الذي تغير في صناعة الترجمة نفسها مع نمو الطلب عليها؟ أحد التغيرات هي أن التخصص في المواضيع أصبح أكثر أهمية بكثير. فقبل ثلاثين عاما، كان أولئك الذين يشغلون مواقع “النخبة” في الترجمة يعملون مع العديد من اللغات وفي العديد من مجالات التخصص. فمثلا عند سؤال أي مترجم أو وكالة ترجمة مرموقة ما هو أهم شيء يحتاجه المترجم لكي ينجح (بصرف النظر عن الأساسيات: المعرفة في لغتين أو أكثر، ومهارات الكتابة الممتازة، ومهارات البحث والاتصال)، فسوف يجيب جميعهم بنفس الشيء، ألا وهو التخصص الموضوعي. ومع وجود شركات تعمل على نطاق دولي، تتطلب العديد من الوثائق دقة بالغة وتنطوي على مخاطر كبيرة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الخطأ في ترجمة تقرير طبي إلى وفاة شخص ما، وقد يؤدي تقرير مالي خاطئ إلى خسارة الآلاف أو حتى ملايين الدولارات للجهات المعنية.

ومع ازدياد الطلب على الترجمات ونمو التقنية، اخترع المطورون وسيلة للترجمة البسيطة العامة التي من شأنها أن تقلص الحاجة إلى مترجم بشري في المواضيع البسيطة. وبالتالي فإن الترجمة الآلية ، مثل مترجم جوجل، قد تشكل خطرا على المترجمين غير المتخصصين. ومن ناحية أخرى، فإن الترجمة الآلية عادة ما تستخدم لمعرفة جوهر نص أو فهم رسالة بسيطة، أو من قبل وكالات (حوالي 10٪ من وكالات الترجمة!) التي ليس لديها الميزانية للدفع للمترجمين لمشروع ضخم. ومع ذلك، فإن الوكالات والمترجمين غير الراغبين في التنازل عن الجودة والذين يتعاقدون مع العملاء الذين يحتاجون إلى ترجمة دقيقة ومتخصصة ومكتوبة بشكل جيد، لا يميلون إلى استخدام تقنية الترجمة الآلية. وهكذا، نتيجة للعولمة والتقنية، فإن المترجمين الذين يشغلون الآن مناصب “النخبة” هم من ذوي التخصصات الدقيقة.

كما أدت العولمة إلى زيادة كبيرة في عدد المترجمين المتاحين. وأصبح بإمكان العملاء ووكالات الترجمة الآن الاستعانة بمصادر خارجية في وثائقهم في جميع أنحاء العالم. وبينما كان المترجمين معتادين على العمل في المكتب، يمكن الآن تقريبا القيام بكل عمل الترجمة من وراء الحاسوب في المنزل. وهذا يعني أنه يمكن التعاقد على أعمال الترجمة من أي مكان في العالم. وقد يكون ذلك مصدرا للقلق بالنسبة لبعض المترجمين الذين يخشون أن ينافسهم آخرون يعملون في البلدان ذات الأجور المنخفضة. ومع ذلك، فإن التقنية التي توفر إمكانية الاستعانة بمصادر خارجية لم تفعل شيئا سوى توفير المزيد من الوسائل للترجمة وتوفير الطلب بالاضافة إلى العرض لتلك الوسائل.

وإذا فكرت في ذلك ستجدها دائرة ساخرة. فالتجارة الدولية تتطلب استخدام الترجمة، وبالترجمة أصبحت العولمة ممكنة، الأمر الذي أدى بدوره إلى تسليط الضوء على عائق اللغة، مما دفع الطلب على الترجمة. وينبغي أن يكون الاستعانة بمصادر خارجية نعمة أكثر من أي نوع من أنواع القلق بالنسبة للمترجمين، لأنه يعطيهم إمكانية العمل من المنزل. أما عن كيفية استمراره في التأثير على الصناعة، فلا يمكننا معرفة ذلك. ومع ذلك، وكما رأينا أعلاه، تشير الاتجاهات إلى أننا سوف نضطر إلى تطوير تخصصات مركزة للتنافس مع الآلات. مخاوفنا من أن يتم استبدالنا بالترجمة الآلية سوف تتحقق فقط عندما يتمكن مطورو التقنية من خلق الذكاء الاصطناعي. وكل ما يمكننا القيام به هو العمل الجاد بينما ننتظر ونرى.

وجوهرها، هناك استفادة متبادلة بين العولمة والترجمة. فأي شيء ينتج لكي ينشر في أجزاء أخرى من العالم يحقق هدفه عن طريق الترجمة. ولأن آثار العولمة على مجال الترجمة كانت عميقة، وزاد الطلب على خدمات الترجمة التحريرية والترجمة الشفوية نتيجة للتغيرات العالمية، فيجب إعداد المؤسسات التي تقدم التدريب في مجال الترجمة، أي الجامعات، من أجل تلبية هذا الطلب، فهي تلعب دورا رئيسيا في هذه المرحلة، ولها بعض المسؤوليات التي يتعين عليها القيام بها.

العولمة، والاقتصاد العالمي، والمقاومة العالمية

أحد السمات المميزة في عصرنا هو الترابط القوي بين الهياكل التجارية والاجتماعية والسياسية في جميع أنحاء العالم. فمن سلاسل الصناعات الغذائية إلى صناعة الأفلام، ومن التقارير الإخبارية إلى شبكات المقاومة السياسية، أصبح العالم شبكة كثيفة من العلاقات المتبادلة التي يتم إعادة تشكيلها باستمرار من خلال أشكال مختلفة من الوساطة اللغوية والثقافية. وقد تم النظر في وضع الترجمة والترجمة الفورية وتأثيرهما في هذا السياق من منظور مختلف، حيث ركزت بعض الدراسات على مسارات محددة مثل صناعة النشر العالمية، والتكتلات الإخبارية، والمنظمات الدولية والوطنية، والصناعات، أو الشركات متعددة الجنسيات. كما ركزت أبحاث أخرى على استراتيجيات الترجمة وأثر بعض الممارسات مثل توطين الألعاب، الترجمة المجانية للأفلام من قبل الجمهور (fansubbing)، الفحص والترجمة (scanlation)[1]، التعهيد الجماعي، وأشكال مختلفة من المقاومة العالمية للنظام العالمي السياسي.

لقد عززت العولمة هيمنة اللغة الإنجليزية في صناعة النشر، حيث لايزال عدد الكتب المترجمة من اللغة الإنجليزية في الارتفاع، على حساب اللغات الأخرى (Sapiro, 2010). وفي حين أن الإنتاج الأكثر للتكتلات تهيمن عليه اللغة الإنجليزية في الأسواق الأمريكية والفرنسية، فإن الإنتاج القليل للشركات الصغيرة المستقلة قد “وضع استراتيجية للمقاومة من خلال ترجمة المصنفات الأدبية من عدد متزايد من اللغات، من أجل تعزيز التنوع الثقافي” (Sapiro, 2010: 420). ولكن في الوقت نفسه، فقد “أدى التكتل في الواقع إلى اختفاء عدد كبير من الناشرين المستقلين ” (Hale, 2009: 218)، مما يحد من مساهمة الإنتاج الصغير في التنوع الثقافي. كما أدت العولمة إلى أنماط أكثر تعقيدا لنشر وتوزيع الأعمال، بما في ذلك ترتيبات النشر المشترك وزيادة مشاركة المترجمين في الترويج للكتب والمؤلفين في مجموعة واسعة من الأماكن، مما دفع بعض الباحثين إلى الدعوة إلى طرق جديدة لتنظير حول المهنة (Buzelin, 2006). وكما هو الحال في مجالات الحياة الاجتماعية الأخرى، فإن أحد عواقب العولمة في صناعة النشر كان طمس الحدود التي فصلت تقليديا عمل المترجمين عن أعمال الآخرين، مثل المحررين والناشرين، والوكلاء الأدبيين.

وفي سياق نشر الأخبار وترجمتها، يمكن التعرف على نموذجين واسعين (van Leeuwen, 2006). ينطوي أحد النماذج على عولمة المحلي، كعندما يتم ترجمة الأخبار المحلية إلى لغة عالمية، والتي عادة ما تكون الإنجليزية. هنا، تحل اللغة الإنجليزية العالمية محل الأنواع المحلية للغة الإنجليزية ويتم تعديل المنظور الأيديولوجي ليتوافق مع توقعات القراء العالميين. وهكذا، فإن “الخصخصة”، على سبيل المثال، تحل محل المصطلح المحلي “المساواة”، أما المصطلحات الشيوعية فيتم إما حذفها أو تعديلها، حيث يتم الاستعاضة عن كلمة “كوادر” بكلمة “مسؤولين” و “كونهم مستنيرين” بعبارة “بكونهم تحولوا إلى القضية الشيوعية”. ومع ذلك يتم الاحتفاظ بما يكفي من المفردات المحلية لإضفاء الصبغة المحلية (van Leeuwen, 2006: 230–31). أما النموذج الثاني فيتمثل في إضفاء الطابع المحلي على العالمي، كعندما يحاول المعولمين مثل قناة السي إن إن (CNN) و نيوزويك (Newsweek) وأشباههم فتح أسواق جديدة لصحفهم ومجلاتهم، حيث يتعين عليهم تكييف المحتوى مع المتطلبات والحساسيات المحلية. ويوضح جي-هاي كانغ (Ji-Hae Kang,  2010) أن تكييف المحتوى العالمي مع المتطلبات المحلية يمكن أن يضطلع به أيضا أصحاب المصلحة المحليون الذين قد يعيدون صياغة الأخبار المستوردة بطرق تشكك في مصدر الأخبار الأجنبية وتقوضها (نيوزويك، في مثال كانغ) . وهنا أيضا، فإن نمط الاختزال لفرض الاتجاه الأحادي سيفشل في تفسير تعقيدات التفاعل بوساطة الترجمة بين اللاعبين الأكثر قوة والأقل قوة في الاقتصاد العالمي.

إن تركيز التقارير الإخبارية في أيدي عدد قليل من الوكالات العالمية مثل رويترز، ووكالة أسوشييتد برس، ووكالة فرانس برس، كان له عدد من العواقب على الترجمة. وتشمل هذه استخدام معايير موحدة ومتجانسة وأساليب تسهل الترجمة، ولكنها تضعف إبداع المترجم (Bielsa and Bassnett, 2009: 69)، فضلا عن عدم وضوح حدود الأدوار بسبب دمج الترجمة في التقارير الإخبارية، والذي يؤدي إلى تداخل كبير بين وظائف الصحفي والمترجم ويجعل مساهمة الأخير غير مرئية إلى حد كبير.

وقد تحدى عدد من المجموعات المختلفة سيطرة وكالات الأنباء العالمية المتزايدة على تداول الأخبار. ومن بين هذه المجموعات خدمة إنتر للصحافة (Inter Press Service) ، وهي مؤسسة اتصالات دولية لها وكالة أنباء عالمية كجزء مركزي منها[2]. وتقوم هذه المؤسسة بنشر الأنباء من المجتمع المدني والعالم النامي. وخلافا للوكالات العالمية الكبيرة، فإن مواردها المحدودة تقيدها بالنشر باللغة الإنكليزية في الغالب. ومع ذلك فقد تمكنت من توسيع نطاق عروضها اللغوية مؤخرا من خلال منحة من الاتحاد الأوروبي، مما سمح لها بترجمة بعض المحتوى إلى التشيكية والهنغارية والبولندية، بالاضافة إلى اتفاقية ترخيص موقعة مع المدون الأكاديمي من القدس التي تسمح له بنشر ترجماته العبرية لأخبارها[3]. هذا النمط من التعاون بين المجموعات والأفراد ذوي الموارد المحدودة هو نموذجي لحركة العدالة العالمية. كما توجد أمثلة مشابهة من التعاون بين مجموعات من المترجمين النشطين، وبينهم وبين مجموعات ناشطة أخرى (Baker, 2013).

يشكل المركز الإعلامي المستقل، إنديميديا (Indymedia)، تحديا جذريا لوكالات الأنباء العالمية. وهي أكثر رسوخا في ثقافة الحركات الجماعية المستقلة ، التي أُنشئت خصيصا في عام 1999 لتقديم تقارير على مستوى القواعد الشعبية عن المنتدى الاجتماعي العالمي (World Social Forum)[4]. ويقدم موقعها على الانترنت واجهات في طائفة واسعة من اللغات، ويتم ذلك بترجمة البنود الإخبارية الفردية إلى مختلف اللغات وفقا لتوافر المتطوعين، حيث تتم دعوة المستخدمين لإضافة ترجمات إلى أي خبر على الموقع. يختلف هذا النمط التشاركي غير الهرمي لتوليد الأخبار والترجمات بلغات عدة اختلافا جذريا عن عمل وكالات الأنباء، ويضع المترجمين بالتساوي كمشاركين مرئيين في الحركات النشطة.

وقد جلبت العولمة معها ثورة تقنية كبيرة مكنت من ظهور ثقافة تشاركية غير هرمية يتعاون فيها العديد من الأفراد، سواء مترجمين أو غيرهم ، في إنتاج ترجمات مجانية للاستهلاك العام. هذا النوع من الترجمة التي يولدها المستخدم مبني على مشاركة المستخدمين المجانية في مساحات الوسائط الرقمية، و يقوم بها أفراد غير محددون مختارون ذاتيا، وهم أيضا جزء من مجتمع المستخدمين (O ’ Hagan 2009: 97). فمثلا، اللاعبون (Gamers) هم مستخدمين ملتزمين بألعاب الفيديو لديهم المهارات اللغوية ذات الصلة ويعملون بشكل وثيق مع المخترقين (hackers) لاستخراج النصوص من لعبة فيديو واستبدالها بنسخة مترجمة. بدأ مزودي الحواشي السينمائية (Fansubbers) كمجموعات معجبين قاموا بترجمة أفلام الرسوم المتحركة اليابانية وجعلها متاحة بحرية على شبكة الإنترنت. وبذلك فهم يتدخلون في الديناميات التقليدية للصناعة السمعية البصرية من خلال العمل كمفوضين للترجمة الذاتية (Pérez Gonzalez, 2006: 265) وتقويض الاتفاقيات التقليدية المتعلقة بترجمة النصوص. ومن بين ممارسات الترجمة المبتكرة التي أدخلوها استخدام مجموعة واسعة من الخطوط ومجموعات الحروف (typefaces)، والألوان لتمييز المتحدثين، والمسارد لشرح المراجع الثقافية (محاكاة استخدام الحواشي في الترجمات المكتوبة). وقد تم توسيع نطاق الترجمة المجانية للأفلام الآن إلى أنواع وثقافات سمعية بصرية أخرى، وأصبح أكثر انتشارا في ممارساته وأكثر انفتاحا على التعاون مع الصناعة. فالمراقبون (Scanlators) الذين يقومون بفحص وترجمة وتوزيع نسخ غير رسمية من المانجا (كاريكاتير ياباني) على شبكة الإنترنت قبل نشرها في المطبوعات (Zanettin, 2008: 9)، لا يلتزمون أيضا بالمعايير المهنية القائمة للترجمة في هذه الصناعة، سواء من حيث مسائل حقوق التأليف والنشر أو استراتيجيات الترجمة. وقد مكنت العولمة المترجمين ا وغيرهم من تجربة طرق جديدة لسد الفجوة اللغوية والفجوة الرقمية وإعادة تشكيل العلاقة بين مقدمي الخدمات ومستخدمي الخدمات مما أدى إلى مزيد من عدم وضوح الحدود بين أنواع مختلفة من الفاعلين وبين الترجمة وأنواع أخرى من إنتاج النصوص.

وبالمعنى الدقيق للكلمة، فإن الممارسات، غير المرغوب فيها، التي بدأها المجتمع مثل ترجمة الألعاب، الترجمة المجانية للأفلام، والمراقبة كلها غير قانونية. ومع ذلك، عادة ما يتم التسامح معها، وبذلك فقد أدت إلى علاقة مختلفة بين المترجمين وأصحاب المصلحة التجاريين على المستوى العالمي. وخلافا لهذه الممارسات، فإن التعهيد الجماعي هو شكل من أشكال الترجمة المجتمعية المطلوبة (O ’ Hagan, 2009) التي تستخدمها مجموعات كبيرة على الإنترنت مثل فيسبوك و تويتر و ويكيبيديا، وغالبا ما تعتبر بديلا فعالا للترجمة الآلية (Anastasiou and Gupta, 2011). إن التعهيد الجماعي يعتبر وسيلة محتملة مفيدة للحد من الفجوة الرقمية، ولكن على عكس الترجمة غير المرغوب فيها التي ابتدأها المعجبين، تم التشكيك في أخلاقياتها من منظور تأثيرها على المهنة. وقد حددت الأبحاث المنشورة مستويات مختلفة من القلق بشأن توفير ترجمة مجانية للمنظمات التي تستهدف الربح، حيث أن بعض المترجمين يعتبرون هذه المبادرات غير أخلاقية ومدمرة للمهنة، أما البعض الآخر فيشجعون على المشاركة لأسباب متنوعة (McDonough-Dolmaya, 2012). ويشير التماس غير مؤرخ ضد ترجمة التعهيد الجماعي الذي بدأه المترجمون من أجل ممارسات تجارية أخلاقية (Translators for Ethical Business Practices) إلى أن الكثيرين ما زالوا يعتبرون الممارسة غير أخلاقية ومدمرة لوضعهم كمهنيين[5].

وثمة نمط إضافي من خصائص الترجمة التشاركية والتعاونية لعصر العولمة يشمل مجموعات فضفاضة من الأفراد ذوي المهارات المتنوعة التي تجتمع معا لمواجهة تحدي معين ومن ثم يتفرقوا. وعلى غرار الحركات السياسية المستقلة التي وصفها المنظرون في الحركة الاجتماعية، تعمل هذه المجموعات على أنها “شبكات قابلة للتحلل”، “تذوب وتتجدد في أشكال جديدة من التنظيم والعمل” حسب الحاجة (Flesher Fominaya, 2007: 339). وفي سياق الترجمة، يشير لويس بيريز غونزاليس (Luis Pérez Gonzalez, 2010) إليهم على بأنهم طبقات اجتماعية أو سياسية مرتجلة (adhocracies) بسبب طبيعتهم الخاصة ووضعهم المؤقت. الترجمة ليست النشاط المركزي لهذه المجموعات، ولكنها أصبحت ذات أهمية متزايدة في عملهم، حيث يستفيد البعض من إمكانات الاتصالات الشبكية لإنتاج وتعميم نسخ مترجمة من المقابلات التلفزيونية وغيرها من المحتوى السمعي البصري السياسي كشكل من أشكال المقاومة للنظام العالمي (Pérez Gonzalez, 2010).

وأيا كان مجال الحياة الاجتماعية أو السياسية التي يتم دراستها من منظور العولمة، فإنه يمكن رؤية أن الترجمة والترجمة الشفوية تؤدي بوضوح دورا رئيسيا في تشكيل أنماط الهيمنة والمقاومة داخلها. وتعتمد الصناعات الكبرى للسينما والأخبار والنشر على المترجمين والمترجمين الفوريين للوصول إلى الجماهير العالمية والتأثير عليها، شأنها في ذلك شأن جماعات الضغط السياسية والهيئات الحكومية. وفي الوقت نفسه، فإن المجموعات غير المتبلورة من المشجعين والناشطين الذين يرغبون في أن يشكلوا تحديا للنظام العالمي المهيمن يستخدمون أيضا الترجمة والترجمة الشفوية لتقويض هياكل السلطة القائمة. ولا يزال المشهد التقني المتطور يشكل الفرص المتاحة لكليهما. كما أن التطورات التقنية، ولا سيما تقنية المعلومات والاتصالات الجديدة، تعتبر أمر حيوي للحفاظ على الثقافة القائمة على المشاركة غير الهرمية التي تجعل العديد من التحديات المطروحة من خلال الترجمة والترجمة الشفوية ممكنة.

الاتجاهات المستقبلية

لقد حظيت الاعتبارات الأخلاقية باهتمام متزايد في السنوات الأخيرة (Chesterman, 1997 ; Koskinen, 2000 ; Jones, 2004 ; Bermann and Wood, 2005 ; Goodwin, 2010 ; Baker and Maier, 2011 ; Inghilleri, 2011، من بين آخرين)، ومن المرجح أن تحتل مكانا أكثر مركزية في المجال لعدة الأسباب. وتشمل هذه الأسباب زيادة مشاركة المترجمين وبروزهم في حالات النزاع العنيف (Baker, 2006 ; Inghilleri and Harding, 2010)، و جعل الترجمة سلاح في جدول أعمال مكافحة التمرد (Rafael, 2012)، وزيادة الوعي بالدور الذي تؤديه الترجمة في كبح أو تعزيز جوانب التجربة المعيشية للفئات المهمشة مثل النساء (von Flotow, 2011)، والوعي بالبعد العاطفي للترجمة (Cronin, 2002 ; Maier, 2002 ; Robinson, 2011)، وتهديد المهنة الذي تفرضه التقنيات والممارسات الجديدة، مثل الترجمة الآلية والتعبئة أو التعهيد الجماعي.

ترتبط مسألة الأخلاقيات ارتباطا وثيقا بمسألة الثقة، وخصوصا، ولكن ليس حصرا، في سياق الصراع وما بعده، وفي ترجمة الحوار، نظرا لفورية وكثافة كلا النوعين من التفاعل بالوساطة. ففي المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى (1946- 1848)، أدى عدم اليقين بشأن ثقة المترجمين الشفويين إلى استخدام ثلاث مجموعات مختلفة اثنيا واجتماعيا شملوا المواطنين اليابانيين كمترجمين فوريين، وأمريكيين يابانيين كمراقبين، وضباط عسكريين أمريكيين كمحكمين لغويين (Takeda, 2009). وقد لوحظت مستويات مماثلة من عدم الثقة في النزاعات الأخيرة، لا سيما فيما يتعلق بالمترجمين الشفويين المعينين محليا (Baker, 2010b). في الترجمة المجتمعية، فإن تقييم المستخدمين لشخصية المترجم وقدرتهم على الوثوق به كشخص يؤثر على فهمهم للترجمة الجيدة، وغالبا ما يقودهم ذلك إلى تفضيل المترجمين الشفويين القادمين من شبكاتهم غير الرسمية (Edwards et al. 2005, 2006). إن عدم الوضوح حول القلق والتوقعات بشأن حدود الأدوار في العمل الاجتماعي يمكن أن يؤدي بالمثل إلى تآكل الثقة بين المترجمين الفوريين والأخصائيين الاجتماعيين، حيث يتردد العاملون الاجتماعيون في مشاركة معارف الخبراء مع المترجم خوفا من فقدان السيطرة على التفاعل (Tipton, 2010  ).

إن تأثير ثقافات وسائل الإعلام الجديدة والتقنيات الجديدة على جميع جوانب الترجمة هو من بين الخطوط الجديدة الواعدة للبحوث في هذا المجال. إن ثقافات وممارسات وسائل الإعلام الجديدة، مثل العناوين الفرعية على التلفزيون (Cazdyn, [ 2004 ] 2010)، تهيئ طرقا جديدة لرؤية واختبار الحقائق العالمية. كما تخلق وسائل الإعلام الجديدة أيضا قراء ومترجمين جدد واستراتيجيات ترجمة لخدمتهم (Littau, 2011). وكما هو الحال في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية الأخرى، فإن التفاعل بين المترجمين وأدواتهم يتبع جدلا معقدا من المقاومة والتكيّف (Olohan, 2011) ويعكس التوترات التي تشكل الوجه المتطور للمجال والمهنة.


[1] مصطلح يتكون من كلمتي (scan و translation) ويعني فحص وترجمة وتوزيع نسخ غير رسمية من المواد الكوميدية على شبكة الإنترنت قبل نشرها في المطبوعات بدون أخذ الإذن من مالك حقوق النشر.

[2] http://www.ips.org/institutional/ .

[3] http://www.ips.org/institutional/new-language-services-read-ips-news-in-czech-hungarian-polish-and-hebrew/ .

[4] http://www.indymedia.org/en/static/about.shtml .

[5] http://www.petitiononline.com/TEBP3/petition.html .

nv-author-image

فرج صوان

استاذ علم اللغة التطبيقي و اللغة الإنجليزية في جامعة طرابلس وعدد من الجامعات الليبية. حصل على الشهادة الجامعية والماجستير من ليبيا، وشهادة في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة سري البريطانية (Surrey)، ودرس برنامج الدكتوراه في جامعة إيسيكس ببريطانيا (Essex). نشر ثمانية كتب والعديد من المقالات والبحوث. مهتم بالملف الليبي والعربي والاسلامي بجميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نقترح عليكم
ملخص من المسلم به أن الترجمة من وإلى اللغة الإنجليزية…
Cresta Posts Box by CP
إظهار شريط المشاركة
إخفاء شريط المشاركة