مقدمة
إن وصف البحث الكمي عملية سهلة نسبيا لأنه هناك اتفاق عام بين ممارسيه حول مبادئ وخواص هذا النهج. لكن هذا ليس هو الحال مع البحث النوعي. ففي لمحة حديثة عن هذا الحقل، استنتج اثنين من أبرز الباحثين المؤثرين في البحث النوعي، وهما دنزن و لنكولن (Denzin and Lincoln, 2005a: 6-7) أن ‘البحث النوعي يصعب تعريفه، وأنه ليس لديه نظرية أو نموذج مميز خاص به لوحده. كما أن البحث النوعي ليس لديه ممارسات أو طرق له وحده بالكامل’. ويضيفون أن ‘البحث النوعي يعني أشياء عديدة لأناس عدة’ (ص10).
إن وجهة نظر دنزن و لنكولن ليست متضخمة اطلاقا، وهي عامة في المهنة. فمثلا، أحد الداعمين الآخرين المعروفين للبحث النوعي، سيلفرمان (Silverman, 1997: 14)، عبر عن نفس الاستنتاج عندما قال أنه ‘ليس هناك قاعدة متوافق عليها كامنة وراء كل البحث الاجتماعي النوعي’. بالاضافة إلى ذلك، أضاف هوليدي (Holliday, 2004: 731) أن الحدود في البحث النوعي الحالي تتلاشى، وأن الباحثين يفعلون ما باستطاعتهم لاكتشاف ما يريدون أن يعرفوا’. إن نقص الاتساق هذا يرجع إلى أصل النهج النوعي عندما اتحد علماء بمعتقدات مختلفة تحت الوصف النوعي في معركتهم ضد النموذج الكمي.
ولحسن الحظ فإن الصورة ليست سوداوية وباهتة كما تقترح الاقتباسات أعلاه. إن البحث النوعي في الواقع يعتبر تخصص مزدهر، وبينما قد يكون صحيحا أن بعض القضايا كانت عرضة للنقاش الساخن أحيانا، فإن هناك مجموعة من السمات الجوهرية التي تميز الدراسة النوعية المُنفذة بدقة. سنقوم في الأقسام التالية باستعراض هذه المميزات الأساسية.
لمحة تاريخية موجزة
عند التأمل نجد أن البحث الذي يمكن اعتباره نوعيا كان موجودا منذ حوالي قرن في العلوم الاجتماعية. لقد استخدمت الطرق المشابهة للنوعية في علم الاجتماع مع نهاية العقد الأول من القرن العشرين عبر عمل مدرسة شيكاغو لدراسة حياة الجماعات البشرية. وخلال الثلث الأول من القرن قدمت الأنثروبولوجيا أيضا دراسات نوعية مهمة قام بها علماء معروفين من أمثال بواس و مالينوسكي (Boas and Malinowski) حيث حددت أُطر طريقة العمل الميداني (Denzin and Lincoln, 2005a). وهكذا، فإن أفكار ومبادئ النهج النوعي ليست جديدة إطلاقا. ومع ذلك، فإن أول نص حاول تعريف المنهجية النوعية وهو كتاب جلاسر وستراوس (Glaser and Strauss, 1967) ‘اكتشاف النظرية المتجذرة: استراتيجيات للبحث النوعي’ لم يظهر حتى أواخر الستينات. قام المؤلفين في هذا الكتاب المؤثر بوصف استخدام الاجراءات النوعية من قبل العلماء النوعيين بأنه ‘غير منهجي وغير صارم’ (Glaser and Strauss, 1967: 15)، وجادلوا بأن الكتابات القائمة على البيانات النوعية احتوت على أوصاف مفصلة مما نتج عنه قدر قليل جدا من النظرية إن وجدت’ (المرجع السابق) .
لقد شهدت السنوات اللاحقة انفجارا في النصوص حول الطرق النوعية مما يعكس اهتمام متنامي بالمنهج النوعي عبر كل تخصصات العلوم الاجتماعية. فقد اختبر سيل وآخرون مثلا (Seale et al., 2004)، منتوج الناشر الرئيسي لنصوص مناهج وطرق البحث، منشورات سيج (Sage Publications)، ووجد أنه كانت هناك زيادة خلال العقد الأخير بأربعة أضعاف في نشر الكتب المنهجية لطرق البحث (العدد=+130).
كان هناك وضوح متزايد وقبول للبحوث النوعية في علم اللغة التطبيقي منذ منتصف التسعينات. ويرتبط هذا بالإدراك المتزايد بأن كل جانب من جوانب اكتساب اللغة واستخدامها يتم تحديده أو تشكيله بشكل كبير بالعوامل الاجتماعية والثقافية والظرفية، كما أن البحوث النوعية مثالية لتقديم رؤى حول مثل هذه الظروف والتأثيرات السياقية.
وبناء على ذلك، فإن علم اللغة التطبيقي قدم مجالا لكل من النهج الكمي والنوعي على قدم المساواة . بعد قولنا ذلك، يجب علينا أيضا أن نلاحظ في هذا الصدد القلق الخطير الذي أبرزه لازاراتون (Lazaraton, 2003)، وهو أنه هناك عدد قليل جدا من الدراسات النوعية المنشورة في دوريات علم اللغة التطبيقي الرائدة، باستثناء الدورية الفصلية لتعليم الانجليزية كلغة ثانية (TESOL Quarterly). على سبيل المثال، أفادت محرر دورية اللغة الحديثة (The Modern Language Journal)، سالي ماغنان (Sally Magnan, 2000: 2) أنه على الرغم من وجود ‘زيادة في الدراسات الإثنوغرافية ودراسات الحالة المقدمة للنظر فيها، لدرجة أن أعدادهم بدأت تقترب من أعداد الدراسات الكمية’، خلال الفترة من 1995 إلى 2005، فإن ما نسبته 19.8 في المائة فقط من المقالات البحثية في دوريتها كانت نوعية وأن 6.8 في المائة استخدمت منهجية بحث مختلطة (Magnan, 2006). سيكون من المثير للاهتمام إجراء تحليل منهجي لأسباب التباين بين معدلات تقديم الطلبات ومعدلات النشر.
على الرغم من أن وتيرة الدراسات النوعية التي يتم نشرها لا تزال منخفضة نسبيا، فإن تأثير البحوث النوعية في علم اللغة التطبيقي على مدى العقود الثلاثة الماضية كان عميقا. لقد كان لدراسات الحالة المبكرة في السبعينات والثمانينات تأثيرًا رائدًا على فهمنا لاكتساب اللغة الثانية، وولدت العديد من المبادئ والنماذج السائدة. (انظر القسم 6.7.3). وفيما يتعلق بالبحوث المعاصرة، نجد أن الدراسات النوعية تُركز على الموضوعات في كامل طيف البحث، حيث أنه حتى المجالات الكمية الأساسية مثل اختبار اللغة، والعديد من المجالات الرئيسية لعلم اللغة التطبيقي (على سبيل المثال، دراسة الجنس، السلالة، والعرق، والهوية) أصبحت تحركها البحوث النوعية.
الخصائص الرئيسية للبحوث النوعية
تحتوي أدبيات البحث النوعي على العديد من الملخصات التفصيلية للسمات الأساسية للتحقيق النوعي. تتداخل العديد من النقاط في القوائم المختلفة، ولكن كما ذكرنا سابقا، هناك أيضا بعض القضايا الخلافية، ولذلك سنقوم بإلقاء نظرة على الجوانب التي غالبا ما يتكرر ذكرها :
- تصميم البحث الناشئ: عند وصف الخصائص الرئيسية للبحوث النوعية، تبدأ معظم النصوص البحثية بتسليط الضوء على طبيعتها الناشئة. وهذا يعني أنه لم يتم التخطيط المسبق لأي جانب من جوانب تصميم البحث بإحكام، وتظل الدراسة مفتوحة ومائعة بحيث يمكن أن تستجيب بطريقة مرنة للتفاصيل أو الفرص الجديدة التي قد تظهر أثناء عملية البحث. وتنطبق هذه المرونة حتى على أسئلة البحث التي قد تتطور أو تتغير أو تنقح أثناء الدراسة. ومن الجوانب المهمة لهذه الطبيعة الناشئة حقيقة أن الباحثين النوعيين يدخلون عملية البحث بعقل منفتح تماما، دون البدء في اختبار فرضيات مسبقة. وهذا يعني تضييق تركيز البحث تدريجيا فقط، ويتم تعريف مفاهيم الفئات التحليلية خلال عملية البحث وليس قبلها. على سبيل المثال، شجع غلاسر و شتراوس (Glaser and Strauss, 1967: 37) الباحثين النوعيين على تجاهل الأدبيات قبل البحث من أجل ضمان أن ‘ظهور الفئات لن يكون ملوث بمفاهيم ملاءمة أكثر لمواضيع مختلفة’. هذه مسألة مثيرة للجدل للغاية ولهذا السبب سنعود إليها في قسم منفصل أدناه.
- طبيعة البيانات النوعية: تعمل الأبحاث النوعية مع مجموعة واسعة من البيانات بما في ذلك المقابلات المسجلة، وأنواع مختلفة من النصوص (علی سبیل المثال، الملاحظات الميدانية، ومدونات المذكرات واليوميات، والوثائق) والصور (الصور أو الفيديو). أثناء معالجة البيانات يتم تحويل معظم البيانات إلى صيغ نصية (على سبيل المثال، يتم تحويل تسجيلات المقابلة إلى نصوص)، وذلك لأن معظم تحليل البيانات النوعية يتم مع الكلمات. على الرغم من أن البيانات النوعية لا يتم جمعها لغرض عدّها أو قياسها مباشرة بطريقة موضوعية، يمكن للتحليل اللاحق أن يحدد الفئات التي يمكن من خلالها تحويل جوانب معينة من البيانات النوعية إلى بيانات كمية (انظر أدناه). ولأن الهدف المشترك لجميع أنواع الطرق النوعية المختلفة هو فهم مجموعة من المعاني (الثقافية أو الشخصية) في الظواهر التي تتم ملاحظتها، فمن الضروري أن تلتقط البيانات تفاصيل غنية ومعقدة. ولذلك، من أجل تحقيق مثل هذا الوصف الكثيف، فيمكن تقريبا قبول أي معلومات ملائمة كبيانات نوعية .
- خصائص بيئة البحث: نظرا لأن هدف الدراسات النوعية هو وصف الظواهر الاجتماعية أثناء حدوثها طبيعيا، فإن البحوث النوعية تُجرى في البيئة الطبيعية، دون أي محاولات للتلاعب بالموقف قيد الدراسة. ولكي نحصل على مستوى كاف من التفاصيل حول السياق الطبيعي، عادة ما يتم تنفيذ هذه الدراسات من خلال الاتصال المكثف والطويل ، أو الانغماس في بيئة البحث.
- المعنى من الداخل: يهتم البحث النوعي بآراء وتجارب ومشاعر الأفراد الذاتية، وبالتالي فإن الهدف الصريح للبحث هو استكشاف آراء المشاركين حول الوضع الجاري دراسته. ويأتي هذا النهج من الطريقة التي ينظر بها الباحثون النوعيون إلى المعنى، حيث أن المبدأ الأساسي للبحث النوعي هو أن السلوك البشري مبني على المعاني التي يعزوها الناس إلى المواقف (Punch, 2005)، وأن المشاركون الفعليون فقط هم الذين يمكنهم الكشف عن معاني وتفسيرات تجاربهم وأفعالهم. لذلك، يسعى الباحثون النوعيون إلى عرض الظواهر الاجتماعية من منظور ‘المطلعين’ (insiders)، كما أن مصطلح ‘المنظور من الداخل’ (‘insider perspective) له مكان خاص في العقيدة النوعية.
- حجم عينة صغير: إن البحوث النوعية التي تنفذ جيدا تحتاج لعمل مكثف، ولذلك فإن الدراسات النوعية تضطر عادة إلى استخدام عينات مشاركين أصغر بكثير من العينات الكمية. وسوف نعود إلى مسألة أخذ العينات النوعية في القسم الخاص بأخذ العينات في البحث النوعي.
- التحليل التفسيري: البحث النوعي هو تفسري بالأساس، مما يعني أن نتائج البحوث هي في النهاية نتاج تفسير الباحث الشخصي للبيانات. العديد من التفسيرات البديلة ممكنة لكل مجموعة بيانات، ولأن الدراسات النوعية تستخدم أدوات أو إجراءات تحليلية قياسية محدودة نسبيا، فإن الباحث هو الذي سيختار منها في النهاية. كما يستنتج مايلز وهوبرمان (Miles and Huberman, 1994: 7)، فإن ‘الباحث هو أساسا أداة القياس الرئيسية في الدراسة’. وبناء على ذلك، تصبح في البحث النوعي قيم الباحث وتاريخه الشخصي وموقفه من خصائص مثل الجنس والثقافة والطبقة والعمر جزءا لا يتجزأ من الدراسة البحثية (Haverkamp, 2005).
جدلية الطبيعة الناشئة وغير الناشئة
تتعلق أحد القضايا الأكثر إثارة للجدل بين الباحثين النوعي بمسألة ما إذا كان الباحثين بحاجة إلى الدخول في مشروع نوعي بالحد الأدنى من الخلفية المعرفية حتى لا تتلوث الطبيعة الناشئة للدراسة. وكما ذكرنا سابقا، فقد كان كل من غلاسر و شتراوس (Glaser and Strauss, 1967) صريحين حول هذا الشرط، حيث أصبح أحد المبادئ الرئيسية للبحث النوعي هو أن تظهر النتائج فيه بشكل طبيعي، ودون أي تدخل منحاز من الباحث. لذا، فإن الباحث يحتاج إلى تبني توجه ‘الصفحة البيضاء’ (tabula rasa) حيث اقترح غلاسر وشتراوس أن ‘الحساسية النظرية’ للباحث تظهر فقط عندما تكون البيانات قد جُمعت فعلا وتم تحليلها جزئيا بحيث يمكن ربط المفاهيم والفرضيات التي نشأت من جمع البيانات مع المعرفة الموجودة.
وقد تساءل العديد من الباحثين عن واقع هذا الشرط المسبق. وقد أشار تاشاكوري وتيدلي (Tashakkori and Teddlie, 2003 b)، على سبيل المثال، إلى أن قلة من علماء الاجتماع سيجرون بحوثا غير مخططة وغير منظمة، دون توجيه أو وجهة نظر ترشدهم. بل على العكس من ذلك، فإن معظم الباحثين الاجتماعيين الراسخين لديهم خلفيات واسعة في المجالات التي يدرسونها، وبالتالي فإن افتراض ‘الصفحة البيضاء’ هو ببساطة ساذج (المرجع السابق، ص 66). يذهب مايلز و هوبرمان (Miles and Huberman, 1994) خطوة أخرى إلى الأمام عندما يدّعون أن خلفية الباحثين المعرفية هي التي تساعدهم على رؤية وفك التفاصيل والتعقيدات، والصفات الدقيقة، فضلا عن تحديد نوع الأسئلة التي سيتم طرحها أو الحوادث التي يركزون عليها عن كثب. وكما يستنتجون، فإن عدم الاسترشاد بقوة المرء المفاهيمية يمكن اعتباره لاغيا للذات، وهو ما يتناقض مع تحذير غلاسر و شتراوس (Glaser and Strauss, 1967) بأنه إذا التزم العلماء حصريا بنظرية واحدة مسبقة محددة فإنهم يصبحون غير عمليين.
نقاط القوة والضعف في البحث النوعي
ليس هناك نقص في الأدبيات لأوصاف مفصلة لمزايا البحث النوعي، ولقد وجدنا أن نقاط القوة التالية ذات أهمية خاصة:
· الطبيعة الاستكشافية: كان ينظر إلى البحث النوعي على أنه وسيلة فعالة لاستكشاف مجالات جديدة مجهولة. إذا لم يعرف إلا القليل جدا عن ظاهرة ما، فإن الدراسة التفصيلية لعدد قليل من الحالات تكون مناسبة بشكل خاص لأنها لا تعتمد على أدبيات سابقة أو نتائج تجريبية مسبقة (Eisenhardt, 1989).
- فهم المعقد: تعتبر الطرق النوعية مفيدة لفهم حالات معقدة للغاية. في مثل هذه الحالات، هناك خطر حقيقي على الباحثين عموما من أن ينتجوا تفسيرات مخفضة ومبسطة تشوه الصورة الأكبر. إن حساسية المشاركين في البحث النوعي مفيدة جدا في تحديد جوانب البيانات التي تتطلب اهتماما خاصا لأنها توفر مبادئ توجيهية ذات أولوية يتم التحقق من صحتها من قبل الجهات الفاعلة الرئيسية أنفسهم. أي أن أسس البحث النوعي تساعد على تمييز الظواهر الحقيقية من المختلقات الفكرية.
- الإجابة على الأسئلة التعليلية: ليس من غير المألوف في الدراسات الكمية الحصول على نتائج مثيرة للدهشة أو متناقضة، ولكن في كثير من هذه الحالات لا توفر البيانات التي تم جمعها أي تعليل حقيقي للأسباب. هذا هو هو سبب تضمين الباحثين في نهاية التقرير البحثي البيان المعروف ‘هناك حاجة إلى مزيد من البحث لفهم …’ (بمعنى، ‘ليس لدينا أي فكرة لماذا حدث هذا …”). في المقابل، فإن الطبيعة المرنة والناشئة للدراسات النوعية تسمح للباحث بإجراء مزيد من البحث فورا، وبالتالي التوصل إلى فهم أكمل.
- توسيع نطاق فهمنا: بدلا من البحث عن تفسير صحيح يمكن تعميمه، فإن البحث النوعي يهدف إلى توسيع مجموعة التفسيرات المحتملة للتجربة البشرية. وهكذا، فإن البيانات الغنية التي تم الحصول عليها حول تجربة المشاركين يمكن أن توسع نطاق فهمنا ويمكن أن تضيف عمق مدعوم بالبيانات (وليس نظري) لتحليل ظاهرة ما.
- الفحص الطولي للظواهر الديناميكية: من المثير للاهتمام أن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعلنا نقدّر البحوث النوعية ونستخدمها نادرا ما يرد ذكرها في الأدبيات. لقد وجدنا أن البحث النوعي مفيد بشكل خاص لغرض البحث الطولي. إن معظم العمليات التي درسها علماء علم اللغة التطبيقي ديناميكية في طبيعتها، وبالتالي فنحن بحاجة إلى العديد من الدراسات الطولية في هذا المجال لاستكشاف الأنماط المتسلسلة والتغيرات التي تحدث. البحوث النوعية توفر نقطة انطلاق جيدة في هذا الصدد.المرونة
- عندما تسوء الأمور: هناك مجموعة من الأشياء التي يمكن أن تسوء أثناء إجراء البحوث في هذا المجال، خاصة إذا كان موقع البحث ضمن مؤسسة تعليمية. إذا كنا نستخدم تصميم البحوث الكمية البحتة، فبعض الأحداث غير المتوقعة يمكن أن تجعل دراستنا لا معنى لها، أما الطرق النوعية فتسمح لنا باستيعاب مثل هذه التغييرات، بل وتمكنا أيضا من الاستفادة منها والحصول على نتائج مثيرة. لقد وجد غاراردي وتيرنر (Gherardi and Turner, 1999) في تقريرهم (حول دراسة أجرتها لوي ‘Lowe’ فحصت فيها سلسلة من الدراسات الكمية التي أجراها باحثون متميزون) أن جميع المشاريع وصلت إلى نقطة انقطاع عندما توقفت الخطة الأصلية، مما تتطلب أنشطة ترميم نظرية لإصلاح الانهيار وتقديم مظهر من الاتساق في العمل. وخلص غيراردي وتيرنر إلى أنه إذا تم الاعتراف بأن البحث هو رحلة إلى المجهول (أي النوعي) بدلا من مهمة يمكن تحديدها وتخطيطها بشكل مسبق (أي الكمي)، فإن هذه الأعطال تبدو أقل إثارة للدهشة ويمكن التعامل معها صمن إطار البحث”.
- ثراء المواد للتقرير البحثي: قد تكون أحد الجوانب المحبطة للدراسات الكمية هو تلخص نتائج عدة أشهر من العمل الشاق في واحد أو اثنين من الجداول الصغيرة (جدول الارتباطات، على سبيل المثال. يصف جيلهام (Gillham, 2000:121) هذا الوضع جيدا حيث يبين أنه ‘إذا كانت أسئلة البحث الأساسية معقدة (متى لم تكن كذلك؟)، فإن بياناتك ستبدو رفيعة جدا و سطحية ‘. وفي المقابل، فإن الأوصاف النوعية التي تستخدم كلمات وتصنيفات المشاركين تسهّل كثيرا أنتاج حالة مقنعة وحية لمجموعة واسعة من الجماهير.
نقاط الضعف
عادة ما نجد في الأدبيات نوعين من الانتقادات للبحث النوعي. الأول يتكون من شكاوى ذات دوافع كمية حول جوانب معينة من البحث النوعي تختلف عن البحث الكمي والتي يعتبرها الباحثين النوعيين نقاط قوة أو سمة طبيعية. والثاني يتضمن قضايا أثارها الباحثون النوعيون أنفسهم. وفيما يلي سنلقي نظرة على خمس قضايا بارزة بشكل خاص:
- حجم العينة والتعميم: يتعلق الانتقاد الأكثر شيوعا التي يقدمها الباحثون ذوو التفكير الكمي بالطابع الشخصية لعينات المشاركين الصغيرة التي تدرسها معظم الدراسات النوعية. يتناول النموذجين مسألة التعميم بشكل مختلف، ولكن حتى لو قبلنا أن استكشاف المعنى الشخصي لا يتطلب عينات كبيرة، يحذرنا داف (Duff, 2006) من أنه على الرغم من أن الممارسة العامة الشائعة لدراسة (رواية) الحالات قد تكون مفيدة جدا في توفير رؤى حول ظاهرة معينة، فإن الظروف والرؤى قد لا تنطبق على الآخرين بشكل عام. يصف ييتس (Yates, 2003: 224) هذه المسألة باحتمال الإفراط في القراءة من القصص الفردية. .
- دور الباحث: تتعلق القضية الأخرى المتنازع عليها بالدور الذي يلعبه الباحث في تحليل البيانات. وكما يبين مايلز وهوبرمان (Miles and Huberman, 1994: 10)، بأن ‘نقاط القوة في البيانات النوعية تعتمد جوهريا على الكفاءة التي يتم تحليلها بها’. يود الباحثين الكميين أن يروا بعض الضمانات القوية للتأكد من عدم تأثر النتائج بتحيزات وسمات الباحث الشخصية (لمزيد من التفاصيل، انظر القسم حول معايير الجودة).
- عدم وجود صرامة منهجية: بالنسبة للباحثين الكميين المتعودين على استخدام الأدوات والإجراءات القياسية، والتقنيات التحليلية الإحصائية، فإن البحث النوعي قد يبدو ببساط على أنه غير مبرر و غامض. ومن الجدير بالذكر أن نقاطا مماثلة يتم إثارتها أيضا داخل المعسكر النوعي. على سبيل المثال، جادل مجموعة من العلماء النوعيين المحترمين (Seale et ale, 2004: 2) ضد موقف ما بعد الحداثة في الحركة النوعية حيث قالوا أنه:
“يبدو أن هذه العوامل مدفوعة بمؤشر مناهض للمنهجية يفضل المادة (مواضيع البحث) على الشكل (المنهجية). مثل هذا المنظور، الذي ولد جزئيا ردا على الوضعية، أعلن تفوق البحث النوعي على الدراسات الاستقصائية واعتبر المبادئ المنهجية غير قادرة على تحقيق فهم أعمق للثقافة المجزأة والمعزولة. ولكن هذا الأسلوب البحثي لم يحافظ دائما على وعده بتحقيق نوع أعمق من البحث، وغالبا ما تتكشف النتائج عن عرض بحوث نوعية بجودة منخفضة، ونتائج بحوث نمطية تماما وقريبة من الفهم العام”.
ولكن يجب أن نلاحظ أن هذه التعليقات حول عدم وجود صرامة منهجية لا تنطبق إلا على بعض الجوانب النوعية لأن
- نظريات معقدة جدا أو ضيقة جدا: لأن الباحثين النوعيين ليس لديهم وسائل حقيقية لتقييم نتائجهم التي لها أهمية عمومية أكثر والتي هي ببساطة مميزة لحالة معينة، يبين العلماء النوعيين (على سبيل المثال، Eisenhardt, 1989) بأن هناك خطر حقيقي يتمثل في بناء نظريات ضيقة جدا من الحالات الفردية التي يتم دراستها. وبطريقة مماثلة، فإن الاستخدام المكثف للبيانات الغنية قد يسفر أيضا عن نظرية معقدة للغاية.
- مستهلكة للوقت والعمل المكثف: النقطة أخيرة التي يتفق عليها العلماء الكميين والنوعيين على حد سواء، هي أن البحث النوعي، وخاصة معالجة البيانات النوعية، يمكن أن يكون مستهلكا للوقت أكثر من الأبحاث الكمية، وكما ذكرنا سابقا، فهذا جزئيا هو الميزة التي تفسر أحجام العينة الصغيرة نسبيا المستخدمة في الدراسات النوعية.