تخطى إلى المحتوى

البحث الطولي في علم اللغة التطبيقي

البحث الطولي عكس المقطعي المستعرض

تركز العديد من فروع علم اللغة التطبيقي رفيعة المستوى على الجوانب التنموية للفرد (على سبيل المثال، على تطوير محو الأمية أو الكفاءة في اللغة الثانية) كما أن دراسة التغير الاجتماعي تعتبر أيضا مجال بارز في هذا المجال. هذا البروز للتنمية والتغيير يسلط الضوء على أهمية البحوث الطولية، أي الدراسة المستمرة للناس أو الظواهر مع مرور الوقت. والواقع أن البحث الطولي واحدا من أكثر الاتجاهات البحثية الواعدة لعلم اللغة التطبيقي. وبالنظر إلى هذه الأهمية، فإنه من المستغرب أن نجد كمية قليلة من البحوث الطولية في أدبيات علم اللغة التطبيقي، بل إن حتى النصوص المنهجية المتوفرة لا تقول عادة إلا القليل عن هذا الموضوع، وهذا ما جعلنا نكرس فصلا منفصلا حول الموضوع.

 


 
تعتبر البحوث المقطعية نظيرا للبحوث الطولية ، وهي تشير إلى تحليل شبيه بلقطة للظاهرة المستهدفة في نقطة معينة من الزمن؛ مع التركيز على فترة زمنية واحدة. تسمح البحوث المقطعية المستعرضة  بإقامة علاقات بين المتغيرات والتعرف على أفكار المشاركين، ومواقفهم، وعواطفهم، بالاضافة لمختلف السمات المعرفية والشخصية. مثال الدراسة المقطعية هو التعداد الوطني الذي يتم فيه جمع مجموعة واسعة من البيانات من جميع السكان في فترة زمنية ضيقة جدا (Cohen et al., 2000). وبطبيعة الحال، يمكن تحويل بيانات التعداد طوليا من خلال ربط المعلومات المجمعة في تعدادين متتاليين.
تهيمن الدراسات المستعرضة على أبحاث علم اللغة التطبيقي المعاصرة  (والذي ينطبق أيضا على البحوث التربوية بشكل عام)، وبالتالي فإن التركيز في هذا الفصل سيركز على نهج البحث الطولي الأقل شهرة. ومن خلال وصف أنواعه الرئيسية واستكشاف فوائده المحتملة بالنسبة للدراسات المستعرضة ، فإننا نجادل بحاجتنا القوية إلى إجراء تجارب أكثر بالتصاميم الطولية في البحوث.

تعريف وغرض البحث الطولي

البحث الطولي هو مصطلح غير دقيق إلى حد ما يشير إلى مجموعة من الطرق التي تتقاسم شيء واحد مشترك يتمثل في جمع المعلومات حول هدف البحث (والذي يمكن أن يشمل مجموعة واسعة من الوحدات مثل الناس والأسر والمؤسسات والأمم، أو القضايا النظرية المفاهيمية) عبر سلسلة من النقاط الزمنية. وبينما قد يبدو هذا وكأنه تعريف واضح إلى حد ما، فهو غير دقيق حيث أنه قد نقوم بجلسة جمع بيانات واحدة تسفر عن معلومات طولية حول التغيير عبر الزمن (على سبيل المثال، مقابلة تركز على تاريخ حياة شخص)، وقد نجري أيضا سلسلة من المقابلات العميقة التي تستمر لعدة أسابيع أو أشهر، ولكنها لا تستهدف التغيير، بل بعض الجوانب المعقدة الأخرى لتصور الشخص الذي يجري المقابلة وتفسيره لبيئته الاجتماعية. وبناء على ذلك، يشير العديد من الباحثين إلى أنه ليس هناك بالضرورة تطابق واحد بين تصميم الدراسة ونوع البيانات التي تم جمعها (Menard, 2002; Taris, 2000).
وبالتالي، يجب تعريف البحث الطولي من حيث كلا من البيانات والتصميم المستخدم في البحث. ووفقا لما ذكره مينارد (Menard, 2002)، فإن البحث الطولي هو البحث الذي (أ) تُجمع فيه البيانات لفترتين زمنيتين مختلفتين أو أكثر؛ (ب) أن تكون المواضيع أو الحالات التي يتم تحليلها هي نفسها أو أن تكون قابلة للمقارنة (أي مأخوذة من نفس مجتمع الدراسة) من فترة إلى أخرى؛ و (ج) أن يتضمن التحليل بعض المقارنة للبيانات بين الفترات. وكما يخلص مينارد، فإن الحد الأدنى لأي تصميم طولي حقا هو السماح بقياس الفروق أو التغيير في متغير من فترة إلى أخرى “(المرجع السابق، ص 2).
يخدم البحث الطولي هدفين رئيسيين: وصف أنماط التغيير، وشرح العلاقات السببية. على الرغم من أن هذين الهدفين مترابطان، إلا أنهما لا يتطابقان دائما لأننا قد نحصل على معلومات دقيقة عن الترتيب الزمني للأحداث دون الكشف عن أي علاقة سببية بين هذه الأحداث. وكما يختتم تاريس (Taris, 2000) في مقدمته السهلة لهذا الموضوع، فإنه لكي نكون قادرين على تحديد الارتباط بين السبب والنتيجة، فإننا بحاجة إلى نظرية واضحة تفسر العمليات السببية الكامنة وراء الملاحظات الزمنية.
وعلينا أن نلاحظ في هذه المرحلة أنه على الرغم من أن البحث الطولي غير مستغل إلى حد ما في مجال عملنا، إلا أنه ثابت تماما في بعض التخصصات الأخرى في العلوم الاجتماعية. على سبيل المثال، في الاقتصاد، يعتبر استخدام البيانات الطولية ضروري لدراسة مختلف جوانب التغيير الاقتصادي (على سبيل المثال، تغيير معدل التضخم أو مؤشر الناتج المحلي الإجمالي) حيث يتم جمع المعلومات الاقتصادية ذات الصلة على فترات متكررة ومنتظمة جدا. وهناك أيضا العديد من الدراسات الاستقصائية لمعيشة الأسر على نطاق واسع في العديد من البلدان، حيث يتم توثيق التغيرات في أنماط السلوك الاجتماعي عبر العينات الممثلة وطنيا، والتي عادة ما تكون على أساس سنوي. وفي المقابل، في الممارسة النموذجية للبحوث الطولية في التعليم وعلم اللغة التطبيقي، فإن العدد المعتاد لنقاط جمع البيانات (وتسمى أيضا “مراحل” أو “موجات” الدراسة) هو أصغر بكثير، وغالبا لا يتعدى الاثنتين أو الثلاثة، حيث يمتد مقدار الوقت بين الموجات من بضعة أسابيع إلى ما يصل إلى عقد من الزمان.
وأخيرا، من المهم أيضا أن نشير إلى أن البحوث الطولية ترتبط تقليديا بالنموذج الكمي، حيث كانت تهدف إلى توفير صور إحصائية للاتجاهات الاجتماعية الأوسع. وكما يوضح نيل و فلويردو (Neale and Flowerdew, 2003)، فإنه في مثل هذه الدراسات يتم دراسة المجتمعات من البنية الاجتماعية إلى الأسفل، وليس من الشبكة الفردية أو الشخصية إلى الأعلى. ووفقا لهذين المؤلفين، فإن هذه المنهجية تقدم نظرة عين الطير للحياة الاجتماعية التي تعتبر شاملة في النطاق ولكنها تفتقر إلى أي تفاصيل. إنها كفيلم ملحمي، يقدم السرد الكبير حيث تكمن قيمته، ولكنه فيلم يتم فيه إخفاء تعقيدات الحبكة والتغيرات والتحولات السلسة لخطوط القصة الفردية من الرؤية. (المرجع السابق، ص 92)
ومع ذلك كان هناك في الآونة الأخيرة تحرك في العلوم الاجتماعية لجعل البحوث النوعية الطولية أكثر وضوحا. ويتضح تميز هذه الدراسات من خلال التفاعل بين الأبعاد الزمنية والثقافية للحياة الاجتماعية، وتقديم فهم “من أسفل إلى أعلى” لكيفية تحرك الناس عبر الزمن وصياغة العمليات الانتقالية. وهكذا، فإن الفيلم النوعي يقدم لنا نضرة “عن قرب” لنسيج الحياة الحقيقية بدلا من “اللقطة الكمية الطويلة”. وينصب التركيز على الحبكة وخطوط القصة التفصيلية للجهات الفاعلة الرئيسية بدلا من الآفاق الكبيرة للصورة الملحمية “(Neale and Flowerdew, 2003: 193).

البحث الطولي في علم اللغة التطبيقي

في دراسة ثاقبة كتبت قبل عقد من الزمن، جادل ميلو وآخرون (Mellow et al., 1996) بقوة بأن نظريات الانتقال التي تركز على المسار التطوري للغة مع مرور الوقت يعتبر عنصر محوري في أبحاث اكتساب اللغة الثانية، وأن دراسته الفعالة تتطلب طرق بحثية طولية مثل تصميم السلاسل الزمنية. لقد تم تكرير استنتاج ميلو وآخرون في دراسة حديثة عن اكتساب اللغة الثانية لأورتيجا و إيبيري شيا (Ortega and Iberri-Shea, 2005) اللذين أكدا أنه نظرا لأن تعلم اللغة يحدث عبر مرور الوقت، فإن العديد، إن لم يكن كل، الموضوعات حول تعلم اللغة الثانية التي يحقق فيها الباحثين في مجال اكتساب اللغة الثانية يمكن تفسيرها بشكل هادف فقط ضمن منظور طولي كامل. وكما خلصوا، فإنه من خلال النتائج الطولية التراكمية سيكون مجتمع البحث في اكتساب اللغة الثانية قادرا على المساهمة بخصائص ذات مغزى للعملية التدريجية لتحقيق مهارات متقدمة في اللغة الثانية ومهارات القراءة والكتابة في مختلف السياقات (المرجع السابق، ص 28). ومع ذلك، فإن المركزية النظرية للوقت في أبحاث اكتساب اللغة الثانية، كما أشار المؤلفون، في تناقض صارخ مع حقيقة أن المناقشات حول البحوث الطولية نادرة في مجال عملنا.
على الرغم من أننا نتفق مع استنتاج أورتيغا و إيبيري شيا (Ortega and Iberri-Shea, 2005) أن هناك ندرة في الدراسات الطولية المهنية الصالحة في بحوث علم اللغة التطبيقي، إلا أنه إذا نظرنا إلى الميدان بشكل أقرب، فإن العنصر الزمني موجود بالفعل في العديد من المجالات . نجد، على سبيل المثال، العديد من التحقيقات النوعية ما بعد البنيوية، وعادة ما تكون مؤطرة في إطار نظرية اجتماعية ثقافية اجتماعية لغوية، تُظهر التصاميم الإثنوغرافية الطولية (على سبيل المثال، Pavlenko, 2002). في الواقع، تؤكد كل من الاثنوغرافيا وبحوث دراسة الحالة على المشاركة طويلة الأمد مع المشاركين ، مما يجعلها طولية بطبيعتها ومع ذلك، فإن أورتيغا و إيبيري شيا كانا صائبين في الإشارة إلى أن العديد من الدراسات التي أجريت في هذا السياق لا تتمحور حول صياغة صريحة لأهداف البحث الطولي. هناك حالة مماثلة في البحث الكمي لأن نوع البحث الشائع، وفقا لأورتيغا و إيبيري شيا، هو التصميم الكمي الوصفي المصغر، دون استخدام أي إحصاءات استنتاجية. وهكذا، لدينا العديد من التحقيقات “الشبه طولية” في كلا النموذجين التي ببساطة لم يتم تصميمها، وتنفيذها وتحليلها وفقا للمبادئ الطولية الحديثة. كما سنرى لاحقا في هذا الفصل ، فإن ذلك يرجع جزئيا إلى حقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن القيام بتحليل عادل للبيانات الطولية ليس بمهمة سهلة.
ولعل أكثر المجالات نجاحا في البحوث الطولية في علم اللغة التطبيقي هي البحث في فعالية تعليمي اللغة الثانية باستخدام التصاميم التجريبية وشبه التجريبية (في كثير من الأحيان). ومع ذلك، كما يقترح أورتيغا و إيبيري شيا (Ortega and Iberri-Shea, 2005)، فإن الصورة ليست وردية تماما حتى في هذا المجال، لأن الباحثين لا يبدو أنهم يستفيدون من تصاميم السلاسل الزمنية التي يمكن أن تعزز فعالية مثل هذه الدراسات. لقد تم وضع مبادئ هذا التصميم وصلته باكتساب اللغة الثانية من قبل ميلو وآخرون (Mellow et al., 1996) قبل عقد من الزمان، ومع ذلك لم يتمكن أورتيغا و إيبيري شيا في استعراضهم للأدبيات إلا من تحديد دراسة حديثة واحدة فقط اعتمدت هذا التصميم.

أنواع التصاميم الطولية الرئيسية

ينطوي التصميم الطولي الكلاسيكي على أخذ مجموعة من الناس وتتبع تطورهم من خلال تحقيقات متعددة على مدى فترة من الزمن. وعادة ما يطلق على هذا التصميم دراسة اللوحة (panel study) ولكنه ليس الطريقة الوحيدة لجمع البيانات التجريبية حول التغيّر. هناك ثلاثة مناهج طولية معروفة أخرى، وفي كثير من الحالات قد تكون ملاءمة أكثر (وأرخص!) من دراسة اللوحة. دعونا نلقي نظرة على أنواع التصميم الرئيسية الأربعة ببعض من التفصيل. على الرغم من أن وحدات القياس في الدراسات الطولية قد تكون مؤسسات أو شعوب أو أمم، فإن البحث الطولي يستهدف عادة الناس وسنشير في الوصف التالي فقط إلى العينات البشرية.

الدراسات الطولية الاستباقية أو دراسات اللوحة

لقد تم تسمية نوع التصميم الذي يتم فيه اخذ قياسات متتالية في نقاط زمنية مختلفة من نفس المشاركين، أسماء مختلفة، على سبيل المثال دراسة طولية استباقية، “دراسة متابعة الشق” ، “دراسة العصبة”، أو “دراسة اللوحة” ، مع أن هذا الأخير أصبح التسمية القياسية. تمت صياغة المصطلح أصلا في الولايات المتحدة في الأربعينات من قبل عالم الاجتماع بول لازارسفيلد (Paul Lazarsfeld) عندما كان يدرس الآثار التسويقية لإعلانات الراديو على المدى الطويل. السبب الرئيسي لشعبية دراسة المجموعة هو حقيقة أنها تسمح لنا بجمع المعلومات حول التغيّر على المستوى الجزئي كما تحدث فعلا. ولتوضيح أهمية ذلك، دعونا ننظر في استطلاعين متتاليين للرأي بشأن حزبين سياسيين متنافسين، هما ألف وباء، يدرسان – على خلاف اللوحة – عينات مختلفة من مجتمع الدراسة. حتى لو أظهرت النتائج أن شعبية الحزب (أ) ازدادت مع مرور الزمن، لا يمكننا أن نعلم من البيانات ما إذا كان هذا تحول موحد من الحزب (ب) إلى الحزب (أ) أو ما إذا كان بعض الناس قد تحولوا فعلا من الحزب (أ) إلى الحزب (ب) ولكنهم عددهم تجاوز عدد الآخرين الذين تغيروا من الحزب (ب) إلى الحزب (أ). وهكذا، فإن استطلاعات الرأي المتتالية، والتي هي من الناحية الفنية “دراسات استقصائية متتالية”، وتلتقط فقط “صافي التغيّر”، أي، الأثر الصافي لجميع التغييرات (Firebaugh, 1997)، في حين أن تصاميم اللوحة الصحيحة تمكّن الباحثين من مراقبة جميع التغيرات المحددة عبر الزمن (أي أنها ستلتقط المعدل الفعلي لتبديل الحزب بين الأفراد في مثالنا). وهكذا، فإن دراسات اللوحة توفر طريقة قوية غير تجريبية لدراسة التطور والسببية.
لسوء الحظ، تعتبر دراسات اللوحة مكلفة بعض الشيء وتستغرق وقتا طويلا لتنفيذها، كما أنها تتطلب أيضا فريق بحث ملتزم على مدى سنوات. وبالإضافة إلى ذلك، تعاني هذه التصاميم أيضا من اثنين من التهديدات الخطيرة على صلاحيتها: “الاستنزاف” و “تكييف المجموعة”.
·         الاستنزاف (Attrition): النمط المعتاد للمشاركة في دراسة اللوحة على المدى الطويل هو أن عددا متزايدا من المشاركين يتركون اللوحة في الأمواج المتعاقبة. يمكن أن تكون هناك أسباب متعددة لهذا الاستنزاف (أو ‘الفناء’)؛ قد يكون هناك، على سبيل المثال، أسباب لوجستية (عدم التوافر، تغيير العنوان أو رقم الهاتف، الخ)، أو أن يمرض أعضاء اللوحة أو يصبحون ببساطة غير راغبين في الاستمرار بسبب ضيق الوقت أو فقدان الاهتمام. هذا الاستنزاف تراكمي لأنه عندما يغيب شخص ما عن موجة جمع البيانات، سيتم فقدان هذا الشخص للفترة المتبقية من الدراسة (Taris, 2000). وهكذا، يمكن أن تتناقص عينة مجموعة البيانات الكاملة في دراسة اللوحة بشكل ملحوظ، وما يقلق أكثر من حيث الصلاحية هو أن الانخفاض قد لا يكون عشوائيا. أي أنه قد يتخلى نوع معين من المشاركين في وقت مبكر أو يتمسك نوع آخر بالدراسة حتى النهاية. وبالتالي، فإن العينة النهائية قد تقدم تمثيلا متحيزا للعينة الأصلية ومجتمع الدراسة. وباستخدام استراتيجيات مناسبة للتتبع والاتصال (بدءا من إرسال بطاقات عيد الميلاد وتحديثات البحث إلى الاتصال الهاتفي المنتظم) يمكن تخفيض معدل عدم الاستجابة، ولكن هذه الجهود تتطلب موارد بشرية ومالية كبيرة. في مجال البحوث التعليمية، يمكن أن يكون من الصعب على وجه الخصوص إجراء دراسات اللوحة بسبب التغيرات المتكررة في الفصول وتركيبة هيئة التدريس، بالاضافة إلى طرق التدريس.
·         تكييف اللوحة (Panel conditioning): المشكلة الثانية تتعلق بحقيقة أنه عندما يشارك مجموعة من الناس في دراسة طولية، هناك خطر حقيقي من أن الاجتماعات العادية التي تنطوي عليها المشاركة ومعرفة المرء لكونه جزء من الدراسة يمكن أن يغير سلوك أعضاء اللوحة وردودهم. فقد يفقدون، على سبيل المثال، صبرهم حول شكل جمع البيانات، أو أن تجربة الاضطرار إلى التركيز على قضايا معينة في حياتهم تثير وعيهم أو حساسيتهم بهذه القضايا. بدلا من ذلك، قد يتصرفون بشكل مختلف أيضا لأنهم يريدون إرضاء الباحثين الذين يتعرفون عليهم أفضل فأفضل. وهكذا، فإن تأثير تكييف اللوحة الناتج يمكن أن ينظر إليه على أنه مزيج من “أثر الممارسة” و “أثر هوثورن” (Hawthorne effect)[1].

الدراسات المقطعية المستعرضة المتكررة أو “دراسات الاتجاه”

الطريقة الشائعة للحصول على معلومات عن التغيير هي تنفيذ مسوح الاستبيانات المتكررة لعينات مختلفة من المشاركين. إذا كانت الموجات اللاحقة تفحص عينات تمثل نفس مجتمع الدراسة، فعندها يمكن اعتبار النتائج بأنها تحمل معلومات طولية على المستوى الكلي (أي للمجموعة بأكملها بدلا من الأفراد). وعادة ما تسمى هذه الدراسات المستعرضة المتكررة دراسات الاتجاه، وإذا كان موضوع البحث يتعلق بالجوانب الكلية للتغيير الاجتماعي (على سبيل المثال، فحص المعتقدات أو الممارسات المتطورة للمجتمع ككل)، فإن هذا المستوى من التحليل مناسب. وعلاوة على ذلك، فإن التصميم يجعل من الممكن أيضا دراسة ومقارنة التغييرات في مختلف العينات الفرعية (على سبيل المثال، الذكور والإناث، والمجموعات العرقية، وما إلى ذلك).
دراسات الاتجاه ليست مجرد أنها ثاني أفضل أنواع الدراسات الطولية (على الرغم من أنه لا يمكن تتبع التطور الفردي فيها)، فهي تتميز بخصائص معينة عن دراسات المجموعة. أولا وقبل كل شيء، هي عادة ما يكون تنظيمها وتنفيذها أرخص وأسهل، ويرجع ذلك جزئيا إلى حقيقة أن المشاركين يمكن أن يبقوا مجهولين، وجزئيا لأن تنظيم عينة جديدة يميل إلى أن يكون أبسط من تتبع المشاركين في المسح السابق. وهناك ميزة أخرى تتمثل في أن دراسات الاتجاه لا تعاني من الاستنزاف أو التكييف، حيث يمكن أن تكون كل موجة ممثلة لمجتمع الدراسة. غير أن هناك نقطة ضعف تتمثل في أن المنظور الكلي الذي يتسم به تصميمها ليس مناسبا بشكل خاص لحل المسائل المتعلقة بالسببية أو لدراسة الأنماط التطورية (Taris, 2000).
وهناك مشكلة أخرى قد تكون ناجمة عن حقيقة أنه من أجل ضمان المقارنة بين القياسات عبر الزمن، فإننا بحاجة إلى استخدام نفس الاستبيان في جميع موجات الدراسة. ومع ذلك، “نادرا ما تكون الأنظمة التعليمية والمناهج الدراسية ثابتة لفترات طويلة، وبالتالي فإن كلما تباعدت الدراسة عن المرحلة الأولى، كلما ازداد احتمال أن بعض أجزاء الاستبيان المستخدم لن تعالج القضايا المستهدفة بشكل مناسب أو أن بعض الأمور الناشئة سيتم تجاهلها (Keeves, 1994). وعند القيام في البداية بتصميم أداة جمع البيانات فإننا قد لا نعرف ما هي الاتجاهات التي سنكتشفها، وبالتالي فإن الاستبيان قد لا يكون مناسبا تماما لتحليل العوامل المحددة المرتبطة بها، ومع ذلك لا يمكننا تغيير الأداة دون المساس بالسعة الطولية.
 

الدراسات الطولية الاستعادية

من العوامل العائقة الرئيسية لكل من دراسات المجموعة والاتجاهات هو حقيقة أن علينا أن ننتظر فترة زمنية طويلة قبل أن نتمكن من رؤية النتائج. تقدم الدراسات الطولية الاستعادية طريقة للالتفاف على هذا التأخير، وإن لم يكن من دون تكلفة. يتم جمع البيانات الطولية بأثر رجعي خلال دراسة واحدة يطلب فيها من المستطلعين التفكير للخلف والإجابة عن أسئلة حول الماضي. قد يبدو ذلك بمثابة فكرة واضحة يمكن أن توفر لنا الكثير من الوقت والمال ولكن، للأسف، فقد كشفت البحوث الاستعادية السابقة أن نوعية البيانات التي تم استخلاصها يمكن أن تكون متفاوتة جدا. فقد تصل نسبة الردود غير صحيحة أو غير الدقيقة بطريقة ما إلى 50 في المائة من (Taris, 2000)؛ فقد يكون الوصف الرجعي مبسط أو انتقائي، حيث يتم حذف بعض التفاصيل الهامة، اخفائها، أو تكون ببساطة خاطئة. وعلاوة على ذلك، من خلال النظر إلى الماضي من خلال عدسات متأثرة (وهو ما نفعله غالبا) قد يكون إعادة بناء تجارب المشاركين مشوشة، وقد يعاد تفسير المشاعر والأحداث الماضية لتتناسب مع الأحداث اللاحقة أو التصورات الحالية للمشاركين، أو ببساطة لتناسب مع رواية متماسكة معينة. ونتيجة لذلك، تميل البيانات الاستعادية إلى أن تكون أقل موثوقية من البيانات المحتملة، وغالبا ما يكون من الصعب الفصل بين الأسباب الحقيقية والمتصورة أو المفترضة (Cohenet al., 2000). من ناحية أخرى، إذا ركزت الدراسة على فترة قصيرة نسبيا (أسابيع أو أشهر بدلا من سنوات)، فقد يكون التصميم الاستعادي مناسبا، وخاصة إذا كانت البيانات تتعلق في المقام الأول بالأحداث أو السلوك وليس المواقف أو المعتقدات (Ruspini, 2002).

الدراسات المقطعية المستعرضة المتزامنة

يعتبر التصميم الرابع وهو الدراسة المقطعية المستعرضة المتزامنة طولي جزئيا فقط، لأنه لا ينطوي على دراسة التغيير عبر الزمن، ولكن عبر الفئات العمرية. ويتم في هذا التصميم إجراء مسح مقطعي عينات لفئات عمرية مختلفة (على سبيل المثال، دراسة أربع سنوات مختلفة في المدرسة). ويشير تاريس (Taris, 2000) إلى أن معظم الدراسات الاستقصائية في الواقع قد تعتبر مثالا على هذا التصميم، إذ أن جميع الدراسات تقريبا تجمع بعض المعلومات عن عمر المشاركين. ولكن في الدراسة المقطعية المستعرضة المتزامنة، يعتبر عمر المشاركين متغير العينة الرئيسي، أما العمر في التصميم المقطعي المستعرض العادي يعتبر مجرد متغير آخر يمكن التحكم فيه.
يعتبر هذا التصميم بسيط واقتصادي، ولأنه يعطي بيانات حول التغيرات عبر الفئات العمرية، فيمكن استخدامه لدراسة القضايا التطورية. ومع ذلك، هناك مشكلة واحدة وهي أنه يقيس جماعات مختلفة، وقد لا تكون التغييرات الملحوظة ناجمة عن اختلاف السن ولكن بسبب التجارب الخاصة بجماعة (والتي يشار إليها عادة باسم “أثر الجماعات”). وعلاوة على ذلك، على غرار دراسات الاتجاه، نحن بحاجة إلى توزيع نفس الاستبيان على جميع المجموعات الفرعية المختلفة، مما قد يعني أن علينا أن نصمم عناصر عامة لا تكون خاصة بالفئة العمرية.

تصاميم طولية أخرى

لقد تم الجمع بين أنواع التصميم الأساسية الأربعة المذكورة أعلاه في بعض الطرق المبتذلة لعلاج بعض نقاط الضعف الكامنة في مناهج محددة (Ruspini, 2002): عند تدوير الجماعات  يتم استبدال نسبة معينة من العينة في كل موجة لتصحيح تشوهات التكوين الناجمة عن الاستنزاف أو لمطابقة العينة مع مجتمع الدراسة المتغير؛ وبالتالي فإن هذه المسوح تجمع بين ميزات كل من دراسات اللوحة والدراسات المستعرضة المتكررة. كما تجمع مجموعات التقسيم بين التصاميم الطولية والمقطعية المستعرضة من خلال تضمين لوحة كلاسيكية مصحوبة بعينة تناوبية إضافية يتم مسحها معها. يتم دراسة هذه المجموعة الإضافية مرة واحدة فقط، وبالتالي لا تتعرض لتكييف اللوحة. يتم إنشاء مجموعات مرتبطة أو مجموعات إدارية بشكل عشوائي من البيانات الموجودة التي لم يتم جمعها أصلا لأغراض طولية ولكنها تحتوي على رموز تعريفية (عادة أسماء ترافقها تواريخ وأماكن الولادة) بحيث تسمح بمطابقة المشاركين مع البيانات الأخرى التي تم الحصول عليها منهم (على سبيل المثال، بيانات التعداد).
وهناك تصميم زمني آخر وهو دراسة الأتراب، وهي في مكان ما بين دراسة اللوحة ودراسة الاتجاه. ينطوي هذا التصميم على التحقيق المستمر لفوج الولادة (أي مجموعة من الناس الذين ولدوا في نفس العام)، ولكن بدلا من فحص كل عضو من أفراد العينة في كل موجة (كما نفعل دراسة اللوحة)، يتم إجراء سلسلة من الدراسات الاستقصائية المقطعية المتكررة لأعضاء انتقائيين في كل مرة. يمكن أن تتضمن دراسة الأتراب أيضا عناصر بأثر رجعي.
يصف كولينز (Collins, 2006) طريقة مثيرة للحصول على البيانات تشبه الاستباقية في وقت أقل، حيث يتم في “التصميم الطولي المتسارع” ملاحظة أترابيات متعددة من الأعمار المختلفة طوليا لفترة زمنية أقصر. والفكرة هي أنه إذا كانت الأفواج متداخلة قليلا، يمكننا الجمع بين الاترابيات إحصائيا وتقدير مسار نمو واحد، يمتد من أصغر عمر تمت ملاحظته إلى الأكبر.
يعتبر البحث التجريبي أيضا نوع من دراسة المجموعة التي يتعرض فيها جزء من العينة لعلاج أو تدخل أو تلاعب معين، أو بعض الخبرة التعليمية المخطط لها. تسعى الدراسة إلى معرفة ما إذا كان هؤلاء المشاركون قد شهدوا تغيرا مختلفا في الاتجاه أو الحجم عن أي تغيير شهدته بقية العينة الذين لم يتلقوا أي علاج. في الواقع، يجادل جونسون و كريستنسن (Johnson and Christensen, 2004) بأنه عندما يكون هدف الباحث هو دراسة السبب والنتيجة، فإن دراسة مجموعة مع نوع من التلاعب يمكن أن ينظر إليها على أنها نسخة أكثر قوة من تصميم المجموعة العادي. أحد طرق تحقيق ذلك هو تطبيق تصميم السلسلة الزمنية المتقطعة. وكما يصف جونسون و كريستنسن، في هذا التصميم يتم اختبار مجموعة مشاركين واحدة مسبقا عدة مرات قبل العلاج (أي خلال المرحلة الأساسية) وبعد ذلك يتم اتخاذ عدة قياسات بعد الاختبار في نقاط مختلفة أثناء العلاج. إذا كان هناك تأثير للعلاج، فسوف ينعكس في اختلاف أنماط الاختبار القبلي عن استجابات الاختبار البعدي. ويمكن أن يتجلى هذا الانقطاع في التغيير في مستوى استجابات الاختبار القبلي والاختبار البعدي (على سبيل المثال، تغيير في ميل أو اتجاه الدرجات الناشئة). وأخيرا، فإن دراسات اليوميات هي أيضا طولية بطبيعتها لأنها تحتوي على البيانات المسجلة عبر مرور الوقت.

البحوث النوعية الطولية

لقد تم استخدام العناصر الطولية كثيرا في الدراسات البحثية النوعية في الماضي، على سبيل المثال عندما يتم إعادة مقابلة المشاركين، وإعادة زيارة مواقع البحوث أو بشكل أعم من خلال مشاركة الباحث المستمرة في المشروع. ومع ذلك، كما يشرح طومسون وآخرون (Thomson et al., 2003) في مقدمة العدد الخاص من الدورية الدولية لمنهجية البحث الاجتماعي، أن البحث النوعي الطولي يعتبر سلك منهجي جديد ومختلف لأنه يتضمن مكون زمني مميز في تصميم البحث ليجعل التغير محورا مركزيا للاهتمام التحليلي. وهكذا؛ يخلص المؤلفون إلى أن مثل هذه الدراسات تعتبر طولية من حيث التصميم والمراوغة.
من حيث المبدأ، يكون تصميم الدراسات النوعية الطولية أمرا سهل نسبيا، فكل ما علينا القيام به هو أخذ أحد التصاميم الطولية الكمية المعروفة واستبدال مكون جمع بيانات الكمي بطريقة نوعية (على سبيل المثال، مقابلة نوعية). وبطبيعة الحال، من غير المرجح أن يتم تحقيق التمثيل التمثيلي المستعرض (cross-sectional representativeness) بسبب أحجام العينات الصغيرة التي تميز البحث النوعي، ولكن أعداد الجزء النوعي أو الدراسات الاستعادية النوعية واضح المعالم. وتوفر هذه الدراسات إمكانات كبيرة. فمن خلال وضع أوصاف وتفسيرات المشارك في سياق زمني، وقراءة الردود التي تم الحصول عليها في مراحل مختلفة من الدراسة ومقارنتها مع بعضها البعض، يمكن بناء صورة معقدة ومتنوعة تتقاطع مع مزاج ومراحل الحياة (McLeod, 2003). يمكن أن تُفهم قصة الفرد من حيث المفاهيم الفردية لنقاط التحول أو اللحظات المحددة، مثل فيلم بحبكة معقدة وهو انعكاس حقيقي للتقلبات والمنعطفات من خط القصة الفردية (Neale and Flowerdew, 2003).
 
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان هناك عدد قليل جدا من الدراسات الطولية النوعية الصريحة حتى الآن؟ بالاضافة إلى العوامل التي تعمل عموما ضد كل من الدراسات النوعية والبحوث الطولية، هناك عائقان محددان هما: (أ) تعقيد تحليل البيانات النوعية و (ب) الأثر المتزايد لتكييف اللوحة.
 

تعقيد تحليل البيانات النوعية

وكما هو مبين في فصل تحليل البيانات، يمكن أن يكون التحليل النوعي الجيد للبيانات معقدا للغاية حتى بدون إضافة بعد زمني لها. في وصف مفصل ومفيد للاجراءات التحليلية للدراسات الطولية واسعة النطاق، يعترف طومسون وهولندا (Thomson and Holland, 2003) أن إضافة العنصر الزمني إلى البعد المتزامن جعل إدارة البيانات وتحليلها بحاجة للعمل المكثف، لدرجة أنه بدا في بعض الأحيان مخوف. لكي نعدل بين كل من اتساع وعمق البيانات، تم إجراء تحليلات السرد الفردية من قبل القائمين بالمقابلات بعد وقت قصير من كل مقابلة وفي نهاية كل جولة من المقابلات تم كتابة ملخص للتحليل السردي. وبالإضافة إلى ذلك، وبعد الموجة الثالثة من المقابلات، جمع الباحثون معا التحليلات السردية الثلاثة لكل مشارك لإنتاج ملف الحالة، متعقبين التغييرات والاستمرارية في الروايات مع مرور الوقت، مما أضاف زاوية زمانية بارزة. وقد تم استخلاص التفسيرات النهائية من تجميع تحليلات السرد الموجزة وملفات الحالة. وكما يعترف المؤلفون، فقد كافحوا من أجل مواكبة جدول الكتابة هذا.
ووفقا لطومسون وهولندا (Thomson and Holland, 2003)، فإن التحقيقات الطولية المستمرة تثير أيضا مسألة متى يكون من المناسب تماما البدء في إجراء التفسيرات وتدوين النتائج. فبعد كل شيء، لا يوجد إغلاق حقيقي للتحليل حيث يمكن أن تعدل الجولة البيانات المقبلة  التفسيرات بشكل كبير.
هذه الطبيعة المفتوحة للبحوث تتحدى سلطة واستقرار التفسيرات حيث ذكر المؤلفين أنه من خلال فحص الملاحظات المعاصرة للباحثين فقد لاحظوا فعلا تحولات في تفسيراتهم المؤقتة. وكما خلص طومسون وهولندا، فقد تبين أن هذا الغياب للإغلاق التحليلي هو الجانب الأكثر تحديا في تحليلهم لأن جولات البيانات الجديدة تهدد دائما بجعل التفسيرات السابقة زائدة عن الحاجة.
 

زيادة تكييف اللوحة

لقد سبق ذكر الآثار الإشكالية لتكييف اللوحة فيما يتعلق بدراسات اللوحة الكمية. ومع ذلك، فإن خطورة هذه المسألة هي أكبر بكثير في الدراسات النوعية بسبب العلاقة الأكثر حميمية بين الباحث والمشارك. تشتمل الدراسة النوعية الطولية على التنقل معا، حيث يشير طومسون وهولاند (2003) إلى أنهم أصبجوا في مشروعهم على وعي متزايد بتأثير هذه العلاقة ليس فقط على المشارك ولكن على الباحث أيضا. وبالتالي، فإن الآثار المعيارية المترتبة على إجراء المقابلة المتكرر يعتبر تهديد خطير جدا لصلاحية البحث.

التصاميم الطولية المختلطة

لقد رأينا أعلاه أنه لكي نزيد من قوة أنواع معينة من الدراسات الطولية ونقلل من نقاط ضعفها، تجمع عدة تصاميم طولية إبداعية بين جوانب دراسات اللوحة والدراسات المقطعية المستعرضة، وبالتالي فهي تشتمل على مكون بحثي مكثف وشامل. عادة ما يكون العنصر الشمولي كمي، أما المكون المكثف فيفسح المجال للبحث النوعي. ووفقا لذلك. يجادل نيل و فلويردو (Neale and Flowerdew, 2003) بأن المنهجين الكمي والنوعي التقليدين للبحوث الطولية يكملان بعضهما. وفي حين أن هذا صحيح من الناحية النظرية، هناك حاليا عدم توازن ملحوظ في العلوم الاجتماعية بين الثقل النسبي لهذين النموذجين، حيث الدراسات الكمية هي المهيمنة. ولكن، لأن الدراسات الطولية هي تعني بطبيعتها بكل من المستوى الجزئي والكلي (مثل النمو الفردي والتغير المجتمعي)، فإن خلط المناهج يعتبر ضروري من الناحية النظرية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعقيد الهائل لمختلف أنماط التغيير الديناميكي يشير أيضا إلى أن الجمع بين الطرق النوعية والكمية قد يكون مناسبا لإعطاء التحليل الطولي حقه كاملا. لهذه الأسباب، يشجع أورتيغا و إيبيري شيا (Ortega and Iberri-Shea, 2005)،  في استكشافهم لأبحاث اكتساب اللغة الثانية الطولية، البحوث الطولية التي تستفيد من نقاط القوة في تصاميم الطرق المختلطة.

اختيار التصميم: طولي أو مقطعي مستعرض؟

أي نوع من التحليل يجب أن نفضله؟ طولي أو مقطعي مستعرض؟ وبالنظر إلى كثرة البحوث المقطعية المستعرضة في علم اللغة التطبيقي (وفي العلوم الاجتماعية بشكل عام)، الحقيقة هي أن معظم الباحثين يميلون عدم اختيار النهج الطولي. من السهل من وجهة نظر عملية واقتصادية أن نفهم لماذا يحدث هذا. تستغرق الدراسات الطولية وقتا طويلا للوصول لأي نتائج ذات مغزى، وبالتالي فإنها قد لا تكون مناسبة لبحوث الطلاب أو الأكاديميين العاملين بعقود ثابتة. حتى العلماء الذين تكون مناصبهم مستقرة عادة ما يكونوا تحت ضغط الإنتاج قصير الأجل. هذه نتائج روح العصر )أنشر أو انتهي). ومما لا يساعد على ذلك هو أن المشاريع الطولية تحتاج إلى تمويل طويل الأجل لإبقاء فرق البحث في مهامهم، في حين أن منح بحثية قليلة في جميع أنحاء العالم تغطي فترات أطول من سنة أو سنتين. وهكذا، نظرا للضغوط والالتزامات المتعددة التي يخضع لها معظم الأكاديميين عادة، فضلا عن عدم وجود أي حوافز بارزة وهياكل داعمة، لا يمكننا أن نلوم أي أحد حقا على سلك الطريق الأسهلوإجراء دراسات مقطعية مستعرضة. ففي النهاية، يمكن للمرء أيضا أن يصل إلى نتائج قيمة في الدراسات المتزامنة، وبذلك  يمكن للمرء أن يكمل تقرير بحثي ويُقبل للنشر في غضون سنة. بالإضافة إلى قضية مدة المشروع، تقدم البحوث المقطعية بعض المزايا الإضافية. فعادة ما يكون من الأسهل توظيف المشاركين لمرة واحدة، كما أن هذه التصاميم لا تتطلب تكلفة وطاقة كبيرة للبقاء على اتصال مع المشاركين على مدى فترة طويلة. ولا داعي لأن يقلق الباحث حول تكييف اللوحة أو آثار الاستنزاف، بالاضافة إلى أن تحليل البيانات المستعرضة عادة ما يكون أقل صعوبة من تحليل البيانات الطولية. وأخيرا، فالباحث في دراسة مستعرضة أقل عرضة للتأثير الضار للأحداث الخارجية غير المتوقعة الخارجة عن إرادته. وهكذا، وكما يلخص روسبيني (Ruspini, 2002)، يمكن النظر إلى البحوث الطولية على أنها “رفاهية” محفوفة بالمخاطر لا يستطيع الكثيرون منا تحملها.
إن الاهتمام العام بالحجج المذكورة أعلاه هو أنه على الرغم من أن تنفيذ دراسة لوحة على مدى عدة سنوات مع عينة كبيرة قد يكون في الحقيقة فوق طاقة معظم الباحثين، إلا أن هناك العديد من العناصر الطولية المفيدة التي يمكن إضافتها إلى تصميم بحثي لأنها لا تتطلب توظيف هائل للوقت أو الجهد. على سبيل المثال، الدراسات الطولية الاستعادية والمتزامنة تتطلب موجة واحدة فقط من جمع البيانات؛ ويمكن لدراسات الاتجاه أن تسفر عن نتائج ذات مغزى بالفعل بعد المرحلة الأولى (لأنه يمكن بعد ذلك أن ينظر إليها على أنها مسح مقطعي مستعرض عادي). وحتى دراسات اللوحة ليس بالضرورة أن تأخذ سنين (فقد يكون من الممتع جدا في علم اللغة التطبيقي تحليل العمليات الصغيرة التي تحدث خلال دورة اللغة من عشرة أسابيع). باختصار، لدينا شعور بأنه عندما يتعلق الأمر بالبحوث الطولية، حيث توجد إرادة، هناك طريقة. لذا فإن السؤال الحقيقي هو: متى يكون من الأنسب استخدام تصميم طولي بدلا من التصميم المقطعي المستعرض؟
في كتابه المؤثر عن البحوث الطولية، يجادل مينارد (Menard, 2002) بأنه ينبغي أن يُنظر إلى البحوث الطولية على أنها الافتراضية عندما ننوي فحص أي عمليات ديناميكية في العلوم الاجتماعية. ومن الواضح أن هذه العمليات الديناميكية متضمنة في التعلم البشري، النمو البشري أو التغيير الاجتماعي، ولكنها يمكن أن ترتبط أيضا بتفاعلات متنوعة بمستويات مختلفة لقضية ما(على سبيل المثال، جزئية أو كلية)، أو بأنواع مختلفة من المتغيرات (على سبيل المثال، سمات المتعلم وخصائص مهمة التعلم). والحقيقة هي أن هناك عدد قليل (إن وجد) من المجالات في علم اللغة التطبيقي التي لا تحتوي على بعض العناصر الديناميكية. وهذا يشير إلى أن التصميم الطولي سيكون في كثير من الحالات أكثر ملاءمة للبحوث من التصميم المقطعي المستعرض، وبإضافة بعض الموضوعات البحثية بعدا زمنيا إلى الدراسة، فإن التصميم الطولي سيكون أمرا أساسيا.
لا تزال البحوث المقطعية المستعرضة مفيدة لوصف المتغيرات وأنماط العلاقات كما هي موجودة في وقت معين. وعلى الرغم من أن هذه التصاميم عادة ما تكون غير مناسبة لإقامة علاقات السبب والنتيجة، فإن الإجراءات الإحصائية المعقدة المتعددة المتغيرات (وخاصة نمذجة المعادلة الهيكلية) يمكن أن توسع نطاق النتائج المحتملة التي يتم الحصول عليها من تحليل البيانات المستعرضة، بل و يمكن حتى اختبار النماذج النظرية التي تحتوي على مسارات الاتجاه بين المتغيرات. وعلاوة على ذلك، تستخدم البيانات المقطعية أيضا لمقارنة مجموعات مختلفة من الناس ((على سبيل المثال، رجالا ونساء أو متعلمين متوسطين ومتقدمين)، بل ويمكنها أن تقارن بين الفئات العمرية على نحو كاف. ومن ثم، فإن البحث المقطعي هو مجرد ثاني أفضل بديل للتصميمات الطولية. ومع ذلك، فقد كان مينار (Menard, 2002: 80)  محقا عندما خلص إلى أن البحث الطولي يمكن، من حيث المبدأ، أن يفعل الكثير مما لا يمكن للبحوث المستعرضة فعله، ولكن هناك القليل أو لا شيء يمكن، من حيث المبدأ، للبحث المستعرض فعله، ولا يستطيع البحث الطولي القيام به.

تحليل البيانات الطولية الكمية

وبالنسبة لمعظم الباحثين، من المرجح أن يكون عائق البحوث الطولية الكمية هو تعقيد تحليل البيانات المطلوب. يمكن أن يحدث التغيير بأشكال مختلفة جدا ونحن بحاجة إلى إجراءات تحليلية مختلفة لدراسة التغيير التدريجي والخطي والتغيير المنحني، ناهيك عن الأنماط الأخرى الأكثر تعقيدا. تفترض بعض النماذج النظرية، على سبيل المثال، أن هناك انقطاع في التغيير المستمر. وبعبارة أخرى، هناك نقطة تغيير متميزة يسرع فيها النمو ويتباطأ أو يتراجع يستقر (أنظر Collins, 2006). ثم ماذا عن أنماط النمو التي يتداخل فيها متغيران (أو أكثر) متغيرين مع بعضهما البعض بطريقة منتظمة (على سبيل المثال ، البطالة والتضخم، أو لإعطاء مثال لغوي تطبيقي، الكفاءة في اللغة الثانية والمواقف تجاه الاندماج والتثاقف)؟ والواقع أن تنوع أنماط التغيير الطولي واسع، فعلى سبيل المثال، في دراستهم لتصميم السلاسل الزمنية في أبحاث اكتساب اللغة الثانية، يبين ميلو وآخرون (Mellow et al., 1996) عشرة منحنيات تعلم مختلفة ممكنة للأفراد كاستجابة لتعليم اللغة. وهكذا، لإعطاء البيانات الطولية الكمية حقها، نحن بحاجة إلى مطابقة نموذج نظري للتغيير مع نموذج إحصائي مقابل. وكما يقول أورتيغا و إيبيري شيا (Ortega and Iberri-Shea, 2005)، هذا هو المجال الذي فشل فيه علماء علم اللغة التطبيقي عموما لأنهم نموذجيا استخدموا الإحصاء الوصفي والعروض البصرية لتحليل البيانات الطولية بدلا من النماذج الإحصائية المناسبة.
وللأسف، لا يوجد حاليا إجراء إحصائي عام لتحليل التغيير الطولي، وإذا كان لدينا أكثر من موجتين لجمع البيانات لا يمكننا تجنب استخدام تقنيات إحصائية متطورة للغاية مثل تحليل المقاييس المتكررة (repeated measures analysis) أو التحليل اللوغاريتمي الخطي (loglinear analysis) أو تحليل السلاسل الزمنية. وهناك صعوبة أخرى تتمثل في حقيقة أن معظم الإجراءات الإحصائية المتطورة لا يتم تضمينها في برامج الحزم الإحصائية المشهورة مثل الحزمة الاحصائية للعلوم الاجتماعية (SPSS)، ولكن يجب شراؤها بشكل منفصل. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، يسلط ، أورتيغا و إيبيريشيا (Ortega and Iberri-Shea, 2005: 41) الضوء في وصفهم للبحوث الطولية في اكتساب اللغة الثانية على الحاجة إلى أن يصبح علماء علم اللغة التطبيقي على معرفة بالإجراءات التحليلية الطولية الحديثة. وكما يخلصون، فإنه
قد يسعى الباحثون في مجال اكتساب اللغة الثانية في المستقبل إلى رسم خريطة المسار التطوري لفوج يعبر من خلال المناهج الدراسية والوقت التعليمي بنقاط تحول رئيسية، ومراحل مختلفة من الركود ووتيرة مختلفة من التطور، والتقدم غير الخطي. إذا كان هذا هو الحال، وتم إجراء دراسات كمية طولية كبيرة أكثر في مجال اكتساب اللغة الثانية ، فسيكون من المهم تدريب أنفسنا في استخدام الخيارات التحليلية الإحصائية المتاحة خصيصا للاستخدام مع التصاميم والبيانات الطولية.
إن وصف هذه الخيارات الإحصائية المتخصصة خارج نطاق هذا الكتاب ولذلك نعرض هنا فقط لمحة عامة للاتجاه. يقدم مينارد (Menard, 2002) تصنيفا تقريبيا لأساليب تحليل البيانات الطولية على بعدين، وهما عدد الحالات في العينة، وعدد الفترات الزمنية التي تم تقييم العينة فيها. ويوفر هذا النظام البسيط نقطة انطلاق جيدة لتحديد نوع التحليل الذي نحتاجه. دعونا نستعرض خياري التصميمين الأكثر ملاءمة لعلماء علم اللغة التطبيقي الذين يرغبون في إجراء دراسة طولية:
·         يفحص تحليل السلاسل الزمنية عدد قليل فقط من الحالات (غالبا ما تكون حالة واحدة)، ولكن العديد من نقاط التقييم (عادة ما تكون أكثر من 20)، ويتمثل الاهتمام الأساسي في إيجاد أنماط التغيير في الحالات الفردية وتعميم النتائج عبر الفترات الزمنية وليس عبر الحالات. هذه التصاميم مناسبة بشكل خاص لتحليل تطور اللغة (Mellow et al., 1996)، وتقد الحزمة الاحصائية للعلوم الاجتماعية (SPSS) عدة خيارات لإنشاء واختبار نماذج السلاسل الزمنية، بما في ذلك تحليل “أريما” (‘ARIMA’ analysis)، الذي أصبح أكثر شهرة في العلوم الاجتماعية (Menard, 2002).
·         على عكس تصميم السلاسل الزمنية هناك تصميم شائع في بحوث علم اللغة التطبيقي يتطلب عينة كبيرة (أكثر من 100) وقليل من فترات البيانات (ويفضل أن لا تزيد عن ثلاثة). يمكن تحليل البيانات المستمدة من هذه التصاميم عن طريق تحليل القياسات المتكررة، الذي تدعمه الحزمة الاحصائية للعلوم الاجتماعية (SPSS). يوفر استخدام النمذجة المعادلة الهيكلية مرونة أكبر في تحليل نتائج تصاميم القياسات المتكررة (أو نماذج منحني النمو الكامن) لأنها تستطيع التعامل مع أكثر من ثلاثة (تصل إلى حوالي سبع) فترات زمنية.
على الرغم من أنه قد تبدو حتى الإجراءات الطولية الأساسية المذكورة أعلاه تقنية جدا لكثير من الباحثين، فإن تحليل البيانات الطولية ليس كله سيئا، حيث يشير تاريس (2000) إلى أن واحدة من الفضائل العظيمة لبيانات القياسات المتكررة هي سهولة امكانية عرضها في رسوم بيانية يسهل فهمها، حيث يتم تمثيل الوقت فيها على المحور الأفقي والمتغير الهدف على المحور الرأسي. وتوفر هذه الرسوم البيانية أو المخططات الخطية تمثيلا بصريا واضحا للاتجاهات الأساسية وتساعد على توليد فرضيات محددة يمكن اختبارها بعد ذلك. وبأخذ هذه الأفكار بعين الاعتبار، فقد يكون من الأسهل الاستعانة بالخبراء لإجراء الاختبارات الإحصائية اللازمة.


[1] جاء هذا المصطلح من اسم موقع بحثي (في شيكاغو) حيث تم توثيق هذا التأثير لأول مرة عندما وجد باحثون في شركة كهربائية أن إنتاج العمل زاد عندما كانوا حاضرين بغض النظر عن الظروف التي تعرض لها العمال. السبب وراء هذا التأثير غير المنطقي هو أن المشاركين يشتغلون بشكل مختلف عندما يعرفون أنهم قيد الدراسة. وقد وجد ميلو وآخرون (Mellow et al, 1996: 334) أن هذا التهديد يبرز بشكل خاص في بحوث علم اللغة التطبيقي لأنها قد تكون التهديد الأكثر خطورة لدراسات استعمال اللغة العفوي’.
nv-author-image

فرج صوان

استاذ علم اللغة التطبيقي و اللغة الإنجليزية في جامعة طرابلس وعدد من الجامعات الليبية. حصل على الشهادة الجامعية والماجستير من ليبيا، وشهادة في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة سري البريطانية (Surrey)، ودرس برنامج الدكتوراه في جامعة إيسيكس ببريطانيا (Essex). نشر ثمانية كتب والعديد من المقالات والبحوث. مهتم بالملف الليبي والعربي والاسلامي بجميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نقترح عليكم
مقالات البحث النوعي: معلومات للمؤلفين والمراجعينلقد بدأ البحث النوعي في…
Cresta Posts Box by CP
إظهار شريط المشاركة
إخفاء شريط المشاركة