تخطى إلى المحتوى

اكتساب اللغة : تحليل تفاضلي لرؤى مختلفة

 مقدمة

على الرغم من وجود العديد من النظريات عن اكتساب اللغة (Language Acquisition)، فإن هذا الفصل يشرح بإيجاز ثلاثة منها فقط. تشمل النظريات التي سنناقشها في هذا الفصل النظرية السلوكية (The Behaviourist Theory)، نظرية تشومسكي (The Chomskyan Theory)، والنظرية التفاعلية (The Interactionist Theory). وكما سنرى لاحقا فإن أيا من النظريات المذكورة يمكن أن تستخدم لوصف اكتساب بعض الجوانب اللغوية. على سبيل المثال، في حين أن التفسيرات السلوكية قد تكون مفيدة جدا في وصف اكتساب الجوانب الروتينية للغة، يمكننا استخدام نظرية تشومسكي لشرح تعلم الهياكل اللغوية الأكثر تعقيدا. وأخيرا، يبدو أن النهج التفاعلي لاكتساب اللغة يمكن اعتباره معقولا لفهم كيفية ربط الأطفال الصيغة بالمعنى، والتفاعل في المحادثات، وكيفية استخدام اللغة بشكل مناسب.

اللغة نظام معقد للغاية، ومع فإن الأطفال يستخدمون لغتهم الأولى بشكل فعال قبل حتى أن يدخلوا المدرسة. وهم يكتسبون النظام المعقد للغة دون تعليم، لأنه لا يجب تعليمهم كيف يتكلمون. وقد حاولت الدراسة العلمية للغة وصف ما يفعله الأطفال عندما يكتسبون لغة أو يتعلمونها، وشجعت دراسة كيفية اكتساب الأطفال لغتهم الأولى على أبحاث كثيرة. يستخدم مصطلح اكتساب اللغة الأولى (First Language Acquisition) أساسا لوصف عملية اكتساب اللغة الأم، ولكن الطفل قد يكتسب لغتين منذ البداية. وهنا يمكننا أن نتحدث عن اكتساب اللغة الأولى إلا أن لغتين هما الأولى. وبعبارة أخرى يمكننا القول أن اللغة هي الأولى إذا تم تعلمها أولا؛ وإلا فإنها ثانية. التمييز واضح عندما يبدأ اكتساب الثانية بعد اكتمال اكتساب الأولى (Klein, 1986). إن اكتساب اللغة الثانية (Second Language Acquisition) له أيضا أهمية مماثلة لللغويين وعلماء النفس.

وقد أدى البحث في هذه المجالات إلى صياغة العديد من النظريات المختلفة التي تركز جميعها على موضوع اكتساب اللغة، ولكن من زوايا مختلفة. ولدراسة هذه الظاهرة الإنسانية، توفر المصادر التالية خلفية مفيدة (Lado, 1964; Chomsky, 1968, 1972; Long 1985; Klein 1986; Cook and Newson, 1988; Lightbown and Spada, 1993; Pinker, 1994; Stern, 1996; Flynn et al, 1998; Bratels, 1999; Davies A. and Catherine E., 2004).

الغرض من هذا الفصل هو الوصف الموجز لأربع نظريات مختلفة عن اكتساب اللغة، ولرؤية كيف يمكن استخدام كل منها لوصف اكتساب جوانب معينة من اللغة. وينقسم الفصل إلى ثلاثة أقسام رئيسية وخاتمة. سنشرح في القسم الأول بإيجاز الطريقة التي تعامل بها السلوكيون مع اكتساب اللغة. وسنناقش في القسم الثاني وجهة نظر تشومسكي حول اكتساب اللغة. أما في القسم الثالث، فسنقدم شرحا موجزا عن كيفية تعامل مناصري النظرية التفاعلية مع ظاهرة اكتساب اللغة الأولى والثانية. وعلى الرغم من وجود نظريات مقترحة أخرى لاكتساب اللغة، فإن هذا الفصل يركز فقط على ثلاثة منها. وعلاوة على ذلك، فإن النظريات التي ستعرض في هذا المشروع تفترض أن اكتساب اللغة الأولى والثانية متشابهة. إن موضوع هذا الفصل هو النظر في بعض النظريات المتعلقة باكتساب اللغة وكيفية البحث عن مزيج منها من أجل الحصول على أقصى فائدة في استخدامها لشرح اكتساب اللغة.

النظرية السلوكية (The Behaviourist Theory)

اكتساب اللغة الأولى

ينظر السلوكيون (behaviourist) إلى اكتساب اللغة الأولى كمسألة تقليد وتشكيل عادات. الأطفال يقلدون ما يسمعون ويتم تشجيعهم على القيام بذلك. ويستمرون في التقليد والتدرب على الكلمات والجمل حتى يشكلون عادات الاستخدام الصحيحة (Lightbown and Spada, 1993:1). وعلى عكس الببغاء، فإن الأطفال يختارون تقليد الأنماط التي يتعلمونها حاليا. وبعبارة أخرى، يختار الأطفال ما يقلدونه على أساس المدخلات المتاحة التي يتعرضون لها (Lightbown and Spada, 1993: 3). يقدم وصف السلوكيون لاكتساب اللغة الأولى نهجا مفيدا لفهم كيفية اكتساب الأطفال بعض الجوانب المألوفة والروتينية للغة. ومع ذلك، فإن اكتساب نظام اللغة المعقدة يتطلب نوعا مختلفا من التفسير (Lightbown and Spada, 1993: 7)، وسنرى لاحقا بعض وجهات النظر النظرية التي تختلف عن النهج السلوكي للغة.

اكتساب اللغة الثانية

يعتقد علماء السلوكية أن التعلم عبارة عن عملية تكوين عادات. تتشكل العادات من خلال تلقي البيانات اللغوية من البيئة المحيطة والتعزيزات الواردة للمحاولات الجيدة المبذولة لتكرار أو تقليد أنماط معينة.

ولأن السلوكيون يعتبرون نضج اللغة كمسألة تشكيل عادات، فإنهم يفترضون أن المتعلم الذي يتعلم لغة ثانية يبدأ بعادات مرتبطة باللغة الأولى. هذه العادات تؤثر على تلك المطلوبة لاكتساب اللغة الثانية، وعلى المتعلم تشكيل عادات جديدة (Lado, 1964 in Lightbown and Spada, 1993: 23).

ويتعامل السلوكيون مع الأخطاء في اكتساب اللغة الثانية كتدخل (interference) من عادات اللغة الأولى. وغالبا ما ترتبط نظرية التعلم النفسي هذه بما يسمى “فرضية التحليل التبايني” (contrastive analysis hypothesis). ويدعي أنصار هذه الفرضية أنه في حالة وجود تشابه بين لغتين، فإن متعلم اللغة سيكتسب اللغة الثانية بسهولة أكثر، ولكن إذا واجهته اختلافات، فإن اكتساب اللغة الهدف سيكون أكثر صعوبة (Klein, 1986: 25). وفي حين أنه قد يكون صحيحا أن اللغة الأولى لها تأثير على تعلم اللغة الثانية، نجد أنه من المقترح أيضا أن المتعلم يستخدم المعرفة المكتسبة بالفعل في تعلمه للغة أخرى (Lightbown and Spada, 1993: 23). ويشير لايتبون وسبادا (Lightbown and Spada, 1993: 23) إلى أن التفسير السلوكي لاكتساب اللغة الثانية غير كامل. ويبدو أن النظرية السلوكية غير كافية لأن بها ثلاثة عيوب رئيسية تتعلق بمنظور التقليد والتعزيز. ويرد أدناه موجز لهذه المشاكل.

يخلق الأطفال كلمات لا وجود لها في لغة البالغين مثل ‘تاتا’ لـ ‘شكولاتة’.

يرتكب الأطفال أخطاء لا تُسمع في كلام الكبار. فعلى سبيل المثال يرتكب الأطفال الذين يتعلمون الإنجليزية كلغة أولى أخطاء مثل قولهم  “goed” بدلا من ” went ” (ذهب) أو “cutted”  بدلا من “cut” (قطع). هذه الأخطاء مهمة لأنها تبين لنا أن الأطفال لا يقومون فقط بالتقليد، ولكنهم أيضا يقومون بتعميم قواعد اللغة. يبدو هنا أن الأطفال يقومون ببناء قواعد اللغة وليس تقليدها فقط.

و يبدو أن ما يفعله الآباء والأمهات وغيرهم من البالغين هو تعزيز الأطفال لكونهم صادقين. على سبيل المثال إذا قام الطفل بإنتاج جملة صحيحة نحويا مثل “the cat wants to eat” (القط يريد أن يأكل)، يميل الآباء إلى تصحيح الطفل إذا كانت الجملة غير صحيحة، كما هو الحال في “no John, the cat does not want to eat. It just ate” (لا يا جون، القط لا يريد أن يأكل. لقد أكلت للتو). ومع ذلك، إذا كانت جملة الطفل حقيقة ولكنها ليست صحيحة نحويا، مثل “Faraj goed to school yesterday” (ذهب فرج إلى المدرسة أمس)، غالبا ما يجيب الآباء بـ “yes, he did”  (نعم، لقد فعل) دون تصحيح الخطأ “goed”. وحتى لو قام الوالدان والبالغون بتصحيح الأخطاء النحوية في نطق الأطفال، فإن الأطفال يميلون إلى الاستمرار في توليد نفس الأخطاء النحوية. ليس هناك شك في أن التقليد والحفظ والممارسة تفسر اكتساب بعض جوانب اللغة مثل معاني الكلمات وبعض عادات اللغة. ومع ذلك، لا يمكن أن يشكل التقليد و تشكيل العادات وحدهما تفسيرا للمعرفة المعقدة التي يكتسبها الأطفال.

وبسبب الحقائق المذكورة أعلاه، تحول علماء النفس والباحثين في اكتساب اللغة إلى ما يدعون أنه نظريات ملاءمة أكثر لاكتساب اللغة. 

نظرية تشومسكي (The Chomskyan Theory)

وفقا للسلوكيين، يتكون التعلم من ربط محفز (stimulus) باستجابة (response). في أواخر الخمسينيات والستينيات، واجهت نظرية التعلم السلوكية جوهريا بعض التحديات الخطيرة والحاسمة. أولا قام اللغوي جون غراسيا (John Gracia) وآخرون بإجراء عدد من التجارب تناقضت نتائجها مع الافتراضات السلوكية الأساسية. ثانيا، استرعى عالم اللغة نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) الانتباه إلى حقيقة أن كل جملة تقريبا ينطق بها الشخص أو يفهمها هي مزيج جديد من الكلمات يُنطق بها للمرة الأولى في التاريخ. ولذلك، فإن اللغة ليست مجرد مخزن الاستجابات، ولكن يجب أن يكون للدماغ برنامج يمكنه من توليد عددا لا حصر له من الجمل من قائمة محدودة من الكلمات. يمكن أن يسمى هذا البرنامج قواعد اللغة الذهنية. الحقيقة الأساسية الثانية هي أن الأطفال يمكنهم تطوير هذه القواعد من خلال معالجة المدخلات اللغوية، وأنهم يستطيعون فهم وبناء الجمل التي لم يسمعوها من قبل. ولذلك، فقد جادل بأنه يجب أن يكون الأطفال مزودين بمجموعة من المبادئ والمعلمات (principles and parameters) التي تعتبر عامة في جميع اللغات البشرية، أي نحو عام أو عالمي (universal grammar)، والذي يُخبرهم بكيفية الاستدلال على الهياكل النحوية من لغة البالغين (Pinker, 1994: 22).

تتمثل الطريقة الصحيحة للتفكير في قواعد اللغة العالمية (أو النحو العام) في عضو (جهاز) عقلي فطري (an innate mental organ) خاص بالجنس البشري. وتماما مثلما عيوننا وآذاننا تسمح لنا بتلقي وفك الإشعاع الكهرومغناطيسي والاهتزاز ضمن عرض نطاقات ترددية معينة، فكذلك تمكننا ملكة اللغة البشرية (human language faculty) أو النحو العام من استقبال وفهم المعلومات التي تحكمها بعض القيود والمبادئ الرسمية.

وببنائه على العمل السابق لمعلمه زلينغ هاريس “Zelling Harris” (Stern, 1996)، درس تشومسكي وزملاؤه وطلابه اللغة وهيكلها واكتشفوا أن اللغة ابداعية ومحكومة بقواعد على حد سواء. وبعد اقتراح نظرية لبنيتها، حاولوا تطوير نظرية لاكتساب اللغة. واقترحوا أن يكون للأطفال هبة طبيعية تمكنهم من اكتساب اللغة في وقت محدود دون أي تعليمات على الإطلاق. ويطلق على هذا الافتراض “الفرضية الفطرية” (The Innateness Hypothesis) التي تقول أن الأطفال مزودين جينيا بجهاز في الدماغ مسؤول عن إنتاج اللغة واكتسابها، وربما فهمها أيضا. ويسمى هذا الجهاز “الملكة العقلية للغة” (language faculty) أو قدرة اللغة. ويطلق عليها علماء اللغة المعاصرين “القواعد العالمية” أو النحو العام (Universal Grammar or UG). يتكون النحو العام من جميع المبادئ التي لا يمكن اكتسابها من خلال الخبرة. يجادل منظرو النحو العام أن جميع البشر لديهم برنامج مدمج يتكون من مجموعة من المبادئ والمعلمات التي تخبر الأطفال ما هو نوع الأصوات والنحو الممكنين، أو لا في اللغة البشرية. ومن ثم، فإن النحو العام يُسهل مهمة الأطفال في تعلم اللغة بتقييد الإمكانيات المتاحة لهم. وتبين المبادئ للأطفال ما هو ممكن في لغة ما وما هو غير ذلك. المعلمات هي الخيارات الممكنة التي يمكن للمرء أن يختار منها في تعلم لغة أو أخرى. على سبيل المثال تختلف اللغات حول ما يمكن أن يتم وصله في تراكيب الأسماء الموصولة (Flynn et al, 1998): أ) الفاعل، ب) المفعول، ج) مفعول غير مباشر، د) المجرور أو مفعول حرف الجر، ه) المضاف إليه، و) مفعول المقارنة.

وتبدأ جميع اللغات البشرية بالخيار الأول وتستخدم تراكيب وصل بالفاعل، ولكن اللغات الأخرى لديها خيارات مختلفة من عبارات الوصل. ومع ذلك، إذا كان هناك نوع واحد من الوصل ممكن في لغة معينة، فإن كل تلك الأخرى إلى اليسار يجب أن تكون ممكنة أيضا. ليس هناك لغة يوجد بها تراكيب وصل الجرور أو مفعول حرف الجر (object of preposition) ولكن لا يوجد بها تراكيب وصل المفعول (object relative clauses). وبناء على ذلك، يجب على الأطفال فقط أن يضعوا معاييرهم على أبعد نوع ممكن من تراكيب الوصل إلى اليمين في لغتهم. لا يجب عليهم أن يتعلموا كل نوع على حدة. ولذلك، فإن تحليل النحو العام لاكتساب اللغة الثانية يمكن أن يساعد المعلمين. وقد تم اقتراح أنه يمكن للباحثين أن يخبروا المعلمين عندما يتم تحديد المعلمات بشكل مماثل أو بشكل مختلف لكل من اللغتين الأولى والثانية. إذا كانت الإعدادات، على سبيل المثال تراكيب الوصل، هي نفسها، فإن المعلم لن يحتاج إلى التركيز على هذا الجانب من اللغة (Bratels, 1999).

لذلك، فإن الأطفال الذين يكتسبون لغتهم الأم لديهم بعض المبادئ العالمية التي ليس عليهم تعلمها. فهي بالفعل موجودة هناك في أدمغتهم. ويجب عليهم استخلاص قواعد لغوية محددة أخرى بمعالجة خطاب البالغين الذي يسمعونه. ومن خلال تشكيل فرضيات حول خطاب البالغين ومن ثم اختبارها، يُثبّت الأطفال المعلمات التي تمثل الخصائص المحددة التي تختلف فيها اللغات. ولكن عندما نقارن كيف تتعامل نظرية تشومسكي مع اكتساب اللغة الأولى والثانية، ندرك ثلاثة آراء متميزة. اكتساب اللغة الأولى له شكل واحد فقط وفق نظرية تشومسكي (Cook and Newson, 1998). لدينا خطاب الكبار، النحو العام، وأخيرا الكفاءة (competence) في لغة معينة. ومن خلال الشكل (1)[1] أدناه نرى أن الأطفال لديهم إمكانية الوصول المباشر إلى النحو العام، حيث يسمع الأطفال خطاب الكبار، معالجته في جهاز النحو العام، ومن ثم تكون لديهم كفاءة لغتهم الأولى.

اكتساب اللغة الأولى

ولكن في اكتساب اللغة الثانية، يمكن أن يكون للأطفال إما الوصول المباشر أو غير المباشر إلى النحو العام، وإلا بدون وصول له على الإطلاق. إذا كان لديهم إمكانية الوصول المباشر، فيمكننا النظر إلى تعلم لغة ثانية مثلما هو الحال عند اكتساب اللغة الأم. ولكن قد يحدث وأن يكون للأطفال إمكانية الوصول غير المباشر إلى النحو العام. لديهم معرفة اللغة الأولى، وبالتالي، يمكنهم الاستفادة منها في تعلم لغة ثانية، حيث يمكنهم أن ينقِلوا بشكل إيجابي إلى اللغة الثانية التي يتم تعلمها. ويوضح الشكل (2)[2] أدناه وجهة النظر هذه في اكتساب اللغة الثانية.

كيفية الوصول إلى النحو العام

على الرغم من أن جميع الدراسات (Flynn et al, 1988) تظهر أن النحو العام لديه على الأقل بعض التأثير على اكتساب اللغة الثانية، إلا أنه لا يوجد توافق في الآراء بشأن الصعوبة التي لا يزال يواجهها المتعلم عند تعلم قواعد اللغة الثانية إذا كان لديه وصول إلى النحو العام، أو لماذا يواجه صعوبة. وبما أن نظرية النحو العام في اكتساب اللغة الثانية مطورة بشكل جيد، ينبغي توجيه الأبحاث في المستقبل لدراسة الصعوبات التي قد يواجهها المتعلمين إذا كان لديهم وصول إلى النحو العام بدلا من تبرير وجود النحو العام نظريا. ومع ذلك، فإن العديد من الآخرين (Flynn et al, 1988) يشيرون أيضا إلى أنه بينما تسود تبريرات النحو العام في اللغة البينية (interlanguage)، فإن ما لازلنا نفتقر إليه هو نظرية تعلم واضحة.

تكمن وجهة النظر الثالثة لتعلم اللغة الثانية في عدم وجود وصول إلى النحو العام على الإطلاق. ويدّعي مؤيدو هذا الرأي أنه يمكن تعلم لغة ثانية معينة من كتاب قواعد اللغة أو من التدريبات. ويدعي اللغويون الداعمون لهذا الافتراض أن متعلمي اللغة الثانية لديهم القدرة على إعادة تفسير قواعد لغتهم الأولى لتتناسب مع اللغة الهدف، ولكن لا يمكن إعادة تثبيت المعلمات، وإنما يتم نقلها إلى اللغة المكتسبة الجديدة. ولوصف تعلم اللغة الثانية من دون النحو العام ، تحول المدافعون عن هذا الرأي إلى بدائل تنظر إلى التعلم “كالحل العام للمشاكل مقرونا بمعرفة اللغة الأولى ” (Cook and Newson, 1998).

لقد قدمنا في هذا القسم ملخص مختصر لكيفية تعامل نظرية تشومسكي مع اكتساب اللغة. وسيركز القسم التالي على وجهة النظر التفاعلية حول اكتساب اللغة.

النظرية التفاعلية (The Interactionist Theory)

اكتساب اللغة الأولى

تركز النظرية قيد المناقشة على العلاقة بين البيئة اللغوية والقدرات العقلية للطفل. ويدعي أنصار هذه النظرية أن نضج اللغة هو نتيجة للتفاعل المعقد بين الملكات (القدرات) البشرية الفريدة والبيئة التي ينمو فيها الطفل. وعلى عكس علماء اللغة التوليديين (generative linguists)، يجادل التفاعليون (the Interactionists) بأن تعديل الكلام ليتناسب مع قدرات المتعلم هو عنصر أساسي في عملية اكتساب اللغة (Lightbown and Spada, 1993: 13-14; Davies and Elder 2004: 518). وقد درس العديد من الباحثين التفاعليين كلام الكبار المعدل المستخدم لمخاطبة الأطفال ولاحظوا أن هذا النوع من الكلام يتضمن جمل بسيطة أبطأ، والتكرار وإعادة الصياغة. ووجدوا أيضا أن المحادثة كثيرا ما تقتصر على بيئة الطفل، وأن الكبار غالبا ما يكررون خطاب الأطفال بطريقة صحيحة نحويا.

ومن الصعب للغاية القول ما إذا كان تعديل خطاب الأطفال من قبل الكبار مهم. فالأطفال الذين لا يتلقون مثل هذا الكلام المعدل مازالوا يكتسبون اللغة، ولكن يمكنهم أيضا الوصول إلى هذا النوع من المدخلات عندما يكونون مع أشقائهم أو البالغين الآخرين (Lightbown and Spada, 1993: 14). وبالنسبة للتفاعلي، تكمن الأهمية في تفاعل الكلام الذي يُقدِّر فيه الكبار مستوى اللغة التي يستطيع الطفل معالجتها. ويبدو أن أهمية التفاعل بين الأطفال والكبار واضحة عند دراسة الحالات غير العادية التي يفتقر إليها.

اكتساب اللغة الثانية

وكما هو مبين أعلاه، فإن العنصر الحاسم في عملية اكتساب اللغة هو المدخلات المعدلة التي يتعرض لها المتعلمون وطريقة تفاعل الناطقين الأصليين (native speakers) بها مع المتعلمين. ويدعي مؤيدو الرأي التفاعلي (Long, 1985) أن التعديل التفاعلي يجعل المدخلات مفهومة، مما يسهل بدوره عملية اكتساب اللغة ويعززها. لذلك، يجب أن يكون التعديل التفاعلي ضروريا لاكتساب اللغة. يجادل لونغ (Long, 1985) أنه لا توجد حالات اكتساب لغة ثانية من الناطقين الأصليين دون تعديل الكلام بطريقة أو بأخرى. في الواقع، تُظهر الأبحاث أن الناطقين الأصليين يعدلون خطابهم عندما يتحدثون مع الناطقين غير الأصليين (Lightbown and Spada, 1993: 30). وقد أثبتت البحوث التي أجريت لدراسة هذه المزاعم أن تعديل المحادثات يمكن أن يساعد على الفهم، ولكن لم تقدم أي بحوث أدلة قاطعة على أن المدخلات المفهومة تُسبب أو تُفسر اكتساب اللغة (Davies and Elder, 2004: 518). 

الخلاصة

لقد ناقشنا في هذا الفصل ثلاثة نظريات مختلفة عن اكتساب اللغة بإيجاز، وهي النظرية السلوكية، نظرية تشومسكي، والنظرية التفاعلية. ليس هناك شك في أن الأطفال يقومون بالتقليد والممارسة، وهذه الممارسة تُفسر اكتساب بعض جوانب اللغة مثل معاني الكلمات وبعض الجوانب اللغوية الروتينية. ومع ذلك، التقليد والممارسة وحدهما لا يمكن أن تفسر اكتساب المعرفة المعقدة التي يكتسبها الأطفال في نهاية المطاف. ويبدو أن اكتساب مثل هذه البيانات المعقدة يعتمد على امتلاك الأطفال لمعرفة داخلية معقدة جدا تسمح لهم بمعالجة اللغة التي يسمعونها.

وللاستفادة من عرض النظريات الثلاث يجب أن نرى أن كل منها يمكن استخدامه لشرح جانب معين من اكتساب اللغة. قد تكون التفسيرات السلوكية مسؤولة عن الجوانب الروتينية، في حين أن آراء تشومسكي تبدو معقولة إلى حد كبير في التعامل مع اكتساب المعرفة النحوية الأكثر تعقيدا. وأخيرا، فإن الوصف التفاعلي ضروري لفهم كيفية ربط الأطفال الصيغة بالمعنى في اللغة، وكيفية التفاعل في المحادثات، وكيفية استخدام اللغة بشكل صحيح.

وفي النهاية، يبدو من الضروري أن الشرح المهني الواضح يعتبر أمر بالغ الأهمية للحصول على فهم كامل لعملية اكتساب اللغة. 

المراجع

Bratels, N. (1999). A review of Suzanne Flynn et al (1998) (eds) book: The Generative Study of Language Acquisition. Mahwah, NJ: Lawrence Erlbaum. TESL Electronic Journal, Vol. 3. No. 4, 1999. Available at:

 http://www-writing.berkeley.edu/TESL-EJ/ej12/r11.html (accessed: 24 May 2006).

 Cook, V. J. and M. Newson (1998). 2nd Edition, Chomsky’s Universal Grammar: An Introduction, Oxford: Blackwell Publishers.

 Davies, A. and C. Elder (2004) (eds). The Handbook of Applied Linguistics, Oxford: Blackwell Publishing Ltd.

Flynn, S. et al (1998). The Generative Study of Language Acquisition, Mahwah, NJ: Lawrence Erlbaum.

Klein, W. (1986). Second Language Acquisition, Cambridge: Cambridge University Press.

Lado, R (1964). Language Teaching: A Scientific Approach, Cited in Lightbown P. and Nina S. (1993) below.

Lightbown, P. M. and Nina S. (1993). How Languages are Learned, Oxford: Oxford University Press.

Long, M. H. (1985). ‘Input and Second Language Acquisition Theory’, Cited in Lightbown P. and Nina S. (1993) Above.

Pinker, S. (1994). The Language Instinct: How the Mind Creates Language, New York: Morrow.

Stern, H. H. (1996). Fundamental Concepts of Language Teaching, 9th Impression, Oxford: Oxford University Press.


 [1] تمت ترجمة هذا الشكل وتعديله من Cook and Newson, (1998).

[2]  تمت ترجمة هذا الشكل وتعديله من Cook, (1993: 210).

nv-author-image

فرج صوان

استاذ علم اللغة التطبيقي و اللغة الإنجليزية في جامعة طرابلس وعدد من الجامعات الليبية. حصل على الشهادة الجامعية والماجستير من ليبيا، وشهادة في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة سري البريطانية (Surrey)، ودرس برنامج الدكتوراه في جامعة إيسيكس ببريطانيا (Essex). نشر ثمانية كتب والعديد من المقالات والبحوث. مهتم بالملف الليبي والعربي والاسلامي بجميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نقترح عليكم
يرجع المفهوم الحالي الأكثر شيوعًا للنحو العام أو القواعد الجامعة…
Cresta Posts Box by CP
إظهار شريط المشاركة
إخفاء شريط المشاركة