وبعد الإطاحة بمعمر القذافي كقائد للبلاد، كانت هناك آمال كبيرة بأن تشهد ليبيا انتقالا سلميا إلى الديمقراطية. يبلغ عدد سكان البلاد ستة ملايين نسمة فقط، وهناك الكثير من عائدات النفط لدعم بيروقراطية فاعلة. لكن ليبيا قبل عام 2011 كانت واحدة من البلدان القليلة في العالم التي لم يكن لها سلطة تشريعية حيث كان القذافي هو والمشرع والحاكم الرسمي. لقد عزل الجيش، ولم يكن موظفو الخدمة المدنية يعرفون مسؤولياتهم من يوم إلى آخر، كما ساعدت المرتزقة والقبائل المسلحة تكتيكيا في الحفاظ على النظام.
وخلال معركة البلاد من أجل التحرير، ظهرت آلاف الميليشيات، متحمسين لإقامة مناطقهم الخاصة. وسرعان ما أصبحت ليبيا مغمورة بالأسلحة. وقد ارتبطت بعض الميليشيات بالمجموعات الإرهابية، مما أدى إلى تعميق الانقسامات التي أصبحت واضحة جدا بعد سقوط القذافي. وعلى الرغم من أن البلد كان يبدو متجانسا قبل الثورة، فإن سنوات القمع كانت تخفي اختلافات قبلية وإقليمية ودينية حادة.
وفي ظل هذه الخلفية، فإن تشكيل حكومة جديدة أصبح مهمة شاقة. لقد كانت الانتخابات التي جرت بعد فترة قصيرة من الثورة حرة ونزيهة نسبيا، ولكن ليبيا عانت من صراع حكومتين متنافستين لعدة سنوات. ترسخت الانقسامات في فبراير 2014 عندما رفض المؤتمر الوطني العام، ، وهو الهيئة التشريعية المؤقتة المليئة بالإسلاميين المتشددين، تسليمه للسلطة بعد انتهاء ولايته التي كانت مدتها سنتان.
لقد عقدت الانتخابات في يونيه 2014 لانتخاب مجلس النواب الجديد، الذي قاطعتها الجماعات الإسلامية فقط، والتي شابها العنف والإقبال المنخفض جدا. وعلى الرغم من فوز العلمانيين بشكل حاسم، إلا أنهم أجبروا على الفرار إلى طبرق في الشرق بعد أن احتل مؤيدو المؤتمر الوطني العام المسلحين طرابلس، بما في ذلك ميليشيات فجر ليبيا. اندلع القتال بين مؤيدي المؤتمر الوطني العام والموالين للبرلمان الجديد، مما أدى إلى تشريد أكثر من 100000 شخص. وبحلول يوليه 2014، أصبح الوضع غير مستقر للدرجة التي أجبرت موظفي الأمم المتحدة على الإجلاء.
كانت قيادة ليبيا مجزأة أيضا. ففي أكتوبر 2012، تمت الإطاحة برئيس الوزراء المنتخب مصطفى أبو شاقور بعد فشله للمرة الثانية للفوز بالموافقة البرلمانية على تشكيل حكومة جديدة. انتخب العضو السابق في المؤتمر الوطني العام ومحامي حقوق الإنسان علي زيدان في مكانه، لكنه تنحى في مارس 2014 وحل محله عبد الله الثني الذي استقال في الشهر التالي بعد أن هاجمت ميليشيات عائلته.
وقد فشلت المحادثات المبكرة لجلوس الجانبين معا لأن المؤتمر الوطني العام رفض المشاركة. وجاءت علامات التقدم في ديسمبر 2015 باتفاق تم التوصل إليه بوساطة الأمم المتحدة، حيث جعل مجلس النواب الهيئة التشريعية الرئيسية في البلاد، وحول المؤتمر الوطني العام إلى مجلس حكومي استشاري يتمتع ببعض صلاحيات النقض. وسيترأس حكومة جديدة للوفاق الوطني مقرها في طرابلس مجلسا رئاسيا يتألف من ستة أعضاء. وستعمل حكومة الوفاق الوطني – وهى حكومة تضم ثمانية عشر وزيرا برئيس وزراء تنفيذي للحكومة.
ولكي تنجح الخطة، يتعين على مجلس النواب أن يصادق على حكومة الوفاق الوطني. لكن مجلس النواب شعر بالجزع عندما استولت ميليشيا موالية للحكومة، وهي كتائب الدفاع عن بنغازي، في مارس 2016على خليج السدرة من الجيش الوطني الليبي الذي يدافع عن مجلس النواب. وصوت مجلس النواب على قائمة وزراء حكومة الوفاق الوطني عدة مرات خلال في صيف عام 2016. وفي الوقت نفسه، انتقدت حكومة الوفاق بسبب تركيزها القليل جدا على المصالحة الوطنية وظروف الليبيين العاديين، وتركيزها المكثف على الحصول على الدعم الدولي.
ولم تكن الخلافات السياسية هي المشكلة الوحيدة التي تعاني منها ليبيا. فقد ثبت أن الحفاظ على الأمن صعب للغاية؛ ونتيجة لذلك، فقد البلد الغني بالنفط ما يقرب من 70 مليار دولار من الإيرادات المحتملة من صادرات النفط. وبدلا من نزع سلاح الميليشيات، دفعت الحكومة لهم أموال الحماية. في الواقع، تحتفظ الأحزاب السياسية بصلات مع الميليشيات التي تحتاجها لحمايتها. وعلى سبيل المثال، فقد تحيزت حكومة الوفاق الوطني مع البنيان المرصوص الذي أطاح بقوات الدولة الإسلامية في سرت على الساحل الشمالي لليبيا في ديسمبر من العام الماضي.
وكان الانتصار في سرت التي استولت عليها الدولة الإسلامية قبل ثمانية عشر شهرا، تحولا كبيرا في ميزان القوى للجماعات العنيفة في ليبيا. بدأ ظهور الدولة الإسلامية في ليبيا في عام 2014، وفي ذروته كانت المجموعة تسيطر على أكثر من 240 كيلومترا من ساحل سرت، وكذلك مدينة درنة الساحلية في شرق ليبيا. وبحلول ديسمبر 2016، تلاشت كامل قبضتها على ذلك الإقليم. وبعد فرارهم من سرت، أصبح مقاتلو الدولة الإسلامية المتبقون يتحركون في أنحاء البلاد بمجموعات صغيرة يصعب تحديد أماكنها. على الرغم من أنها ليست أقوى منظمة متمردة في ليبيا، فيا لا تزال تعيث فسادا، وتقوض الحكومة الليبية الجديدة عن طريق خفض الطاقة وإمدادات المياه.
تتنافس الدولة الإسلامية مع عدد من الجماعات الإسلامية المتطرفة الأخرى، وعلى الأخص جماعة أنصار الشريعة في ليبيا، وكتيبة شهداء أبو سليم. وقد ظهرت الأولى، وهي جماعة جهادية رئيسية، خلال الحرب الأهلية الليبية. هذه هي المجموعة المسؤولة عن هجمات بنغازي على السفارة الأمريكية. وعلى الرغم من أنها تشترك في الفلسفة المتطرفة مع الدولة الإسلامية، إلا أن العلاقات بين المجموعتين متوترة، حيث رفضت أنصار الشريعة الولاء لزعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي، وبدلا من ذلك، أقامت صلات بجماعات تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا. وعلى الرغم من ذلك، أعلنت الجماعة في 28 مايو أنها حلت نفسها بعد أن عانت من خسائر فادحة في بنغازي.
وكذلك تريد كتيبة شهداء أبو سليم تنفيذ الشريعة الإسلامية، وتحديدا في مدينة درنة في شرق ليبيا، حيث فرضت قوانين اجتماعية صارمة هناك. وبعد وصول الدولة الإسلامية إلى درنة في عام 2014، اشتبكت المجموعتان حيث أصبح الصراع معركة ثلاثية بعد أن اغتال تنظيم الدولة الإسلامية زعيم كتيبة شهداء أبو سليم، سالم دربي، الذي كان جزءا من مجلس شورى المجاهدين، وهي الجماعة التي ينتمي إليها كل من كتيبة شهداء أبو سليم و أنصار الشريعة.
كما هو الحال مع أنصار الشريعة، فإن كتيبة شهداء أبو سليم معظم أهدافها تعتبر محلية. لقد كانت إحدى المجموعات الأولى التي حملت السلاح خلال الثورة، وكان لها الفضل في استعادة النظام في المناطق التي تعمل فيها، ولكن أموالها تأتي في معظمها من تهريب النفط والاتجار بالبشر. في الواقع، تولد الدولة الإسلامية والجماعات الجهادية الأخرى ما يصل إلى 323 مليون دولار من الاتجار بالبشر. ويكلف تهريب النفط الدولة الليبية أكثر من 360 مليون دولار أمريكي، وهو مبلغ كبير بالنظر إلى أن إيرادات ليبيا في العام الماضي التي بلغت 5.8 مليار دولار أمريكي.
وعلى الرغم من أن بعض الميليشيات تتماشى مع الحكومة، فلا توجد منظمة أمنية وطنية موحدة. وفي ظل هذا الفراغ، برز المشير خليفة حفتر كلاعب رئيسي. حفتر، الذي خدم في الجيش الليبي تحت حكم القذافي لكنه حاول الانقلاب عليه في التسعينيات، عاد إلى ليبيا خلال الثورة، وشن هجوم عسكري تحت اسم عملية الكرامة ضد الجماعات الإسلامية في بنغازي في مايو 2014، وتم تعيينه من قبل مجلس النواب ليكون قائدا عاما للجيش الوطني الليبي. غير أنه رفض حتى الآن الانصياع إلى حكومة الوفاق الوطني . كما أن الجيش الليبي بقيادته قد قام بتحرير محطات تصدير النفط الرئيسية في شرق البلاد في سبتمبر من العام الماضي. لقد أدى وجود الجيش الليبي بقيادة حفتر في الهلال النفطي إلى رفع معدلات الإنتاج من 200000 إلى 700000 برميل يوميا.
ولا يزال الدور الذي يلعبه حفتر والجيش في حكومة الوحدة الوطنية المقترحة غير واضح. فقد اشتبكت القوات الموالية للمشير حفتر مع القوات الموالية لحكومة الوفاق في طرابلس وخرجت في مظاهرات ضدها، ويقلق بعض المراقبين من أن هدف حفتر هو السيطرة على مزيد من الأراضي في غرب ليبيا، بالقرب من العاصمة، ثم السيطرة بعد ذلك على البلاد بأكملها. ولكن في 2 مايو، وافق المشير حفتر على مقابلة رئيس الجلس الرئاسي، فايز السراج، في الإمارات العربية المتحدة، مما يشير إلى أنه قد يكون على استعداد لعقد اتفاق مع حكومة الوفاق الوطني. لقد كانت الإمارات ومصر من المؤيدين الماليين الكبيرين للمشير حفتر، إلا أن كلا البلدين شعر بأن الوقت قد حان لوضع المزيد من الضغوط عليه لإنهاء المواجهة.
وجاء ذلك الاجتماع بعد ما بدا أنه اختراق في المأزق الذي استمر شهرا بين مجلس الدولة ومجلس النواب. وعلى مدى أكثر من عام، رفض مجلس النواب الموافقة على حكومة الوفاق الوطني التي تتخذ من طرابلس مقرا لها، إلى أن يتم إجراء تغييرات على اتفاق الوساطة الذي أبرم برعاية الأمم المتحدة في ديسمبر 2015. وبعد المحادثات التي جرت في روما الشهر الماضي، بدا كلا الجانبين متفائلين. وادعى كل منهما أنهما توصلا إلى حل عادل وسلمي للقضايا الهامة “لوقف النزيف”. لقد كان الأمل في أن يؤدي هذا الاتفاق الأولي إلى حلول توفيقية في المستقبل.
لكن ليبيا لا تزال لديها ثلاثة مراكز سلطة بدلا من مركزين. الأول هو حكومة الوفاق الوطني بقيادة السراج، وهو عضو سابق في برلمان طبرق. والثاني هو مجلس النواب، القائم أيضا في طبرق والداعم للمشير حفتر. والثالث هو مجلس الدولة المكون من أعضاء سابقين في المؤتمر الوطني العام. ومع وجود العديد من الخلافات التي يتعين حلها، والعديد من المعطلين المحتملين، لا يزال أمام البلد طريق طويل أمام إحلال السلام والأمن.