لقد تم التحقيق في دراسة بيولوجيا (أحياء) اللغة البشرية ، علم اللغة البيولوجي (الحيوي)، بشكل مثمر على مدى السنوات الستين الماضية. وقد تم اكتساب الكثير من الأفكار الهامة في ماهية اللغة (الآليات والوظائف)، وكيفية تتطور اللغة (نمو اللغة)، وكيفية نشوء اللغة في الجنس البشري. وغالباً ما ساعدت مبادئ التماثل في توحيد مجالات العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء. يتم فحص تطبيق التماثل لنظام القرابة الخاص بالسكان الأصليين في أستراليا لشرح كيف أن التماثل يلقى الضوء على ارتباط اللغة والأنظمة المعرفية الأخرى.
برنامج علم اللغة الحيوي
يبحث علم اللغة الحيوي في مجالات البحث القياسية الشائعة في جميع التخصصات البيولوجية: الشكل / التطور، والتنمية (في الفرد) والنشوء (في الأنواع). في حالة اللغة يبحث علماء علم اللغة الحيوي في هيكل، ووظيفة، واستخدام اللغة، وتطور اللغة في الفرد، وتطور اللغة في الأنواع. يتم دراسة الأنواع التالية من الأسئلة الخاصة باللغة:
- ما هي معرفة اللغة؟
- كيف تتطور اللغة عند الطفل؟
- كيف تتطور اللغة في الأنواع؟
وبالطبع ، يمكن طرح الأسئلة المماثلة عن الآلية ، والتطور ، والنشوء حول أي نظام بيولوجي، سواء كان وضع البيض في حالة قصور النمو (Aplysia) أو رقصة نحل العسل.
لقد وضعت هذه الأسئلة عن أحياء اللغة بوضوح من قبل تشومسكي (Chomsky, 1976) في ندوة أقيمت تكريما لإريك ليانبيرج (Eric Lenneberg)، أحد الرواد الأوائل في علم اللغة الأحيائي، وقد أعيدت صياغتها في كتاب تشومسكي ولاسنيك (Chomsky and Lasnik, 1995) المعنون ‘البرنامج البسيط’ (The Minimalist Program). ومع ذلك، كانت هذه الأسئلة المثيرة للاهتمام محور المناقشة في وقت أبكر من ذلك بكثير في بداية علم اللغة الأحيائي الحديث[1].
وبالطبع، فقد أوضح تشومسكي فقط جدول أعمال البحث للعمل في أحياء اللغة (علم اللغة الحيوي) بلغة مألوفة لكل أخصائي بيولوجي. وقد تم قبول هذا النهج بشكل ضمني وصريح من قبل علماء الأحياء مثل الحائزين على جائزة نوبل، سلفادور لوريا (Salvador Luria)، فرانسوا جاكوب (François Jacob) ونيلز جيرن (Niels Jerne) في مناقشاتهم حول جوانب برنامج علم اللغة الحيوي الوليد، والذي أضافوا إليه وجهات نظرهم المثيرة للاهتمام. يؤدى علم اللغة الحيوي إلى إثارة الجدل فقط في مجالات مثل علم اللغة والفلسفة، بمناقشات لا نهاية لها حول ما يسمى بـ ‘الفرضية الفطرية’ (Innateness Hypothesis)، وما شابهها. لكن علماء الأحياء وجدوا صعوبة في فهم حتى ما كانت تدور حوله هذه المناقشات، حيث أنه كان من المفهوم جيداً في هذا المجال أن جميع الأنظمة الحيوية لها مكون وراثي، بما في ذلك اللغة.
يشار إلى الأسئلة (1) – (3) في بعض الأحيان باسم اسئلة ماذا وكيف في علم اللغة الحيوي. هناك سؤال إضافي، سؤال لماذا، الذي قد تكون اجابته أكثر صعوبة، وهو ما يشير إليه تشومسكي (2004) حول سبب كون مبادئ اللغة هي ما هي عليه. إن دراسة هذا السؤال هي الأساس لما سُمي بالبرنامج البسيط (انظر المناقشة في Chomsky, 1995؛ Boeckx, 2011؛ Di Sciullo et al., 2010؛ Di Sciullo and Boeckx, 2011). قد يسأل المرء أيضًا كيف يمكن دمج دراسة اللغة في العلوم الطبيعية الأخرى، وهو ما وصفه تشومسكي (Chomsky, 1994) بـمشكلة التوحيد (unification problem).
لاحظ تشومسكي (Chomsky, 2005) أن خصائص اللغة المحققة مشتقة من ثلاثة عوامل:
- الهبة الوراثية (Genetic endowment)
- الخبرة (أو البيئة)
- مبادئ لا تقتصر على ملكة اللغة
العوامل (أ) الهبة الوراثية و (ب) الخبرة / البيئة تعتبر مألوفة في الأدبيات الشائعة مثل ‘الطبيعة’ و ‘التغذية’. وقد أوضح بالمر (Palmer, 2004) كيف يمكن أن تتفاعل العوامل المذكورة أعلاه بطرق مختلفة. في النمط الوراثي الكلاسيكي، النمط الوراثي يسبق النمط الظاهري، بينما في نمط آخر، الاستيعاب الجيني (genetic assimilation)، فالنمط الظاهري يسبق النمط الوراثي. وقد أظهر فهر وآخرون (Feher et al., 2009) أيضًا كيف يمكن أن يظهر النمط الظاهري أثناء تفاعل الجينات والخبرة عبر عدة أجيال في حالة تعلم زقزقة العصافير عصفور الدوري المخطط.
في ورقة عن النهج المقارن لدراسة علم الأحياء واللغة، لاحظ هاوزر وآخرون (Hauser et al., 2002) أنه من المفيد التمييز بين ملكة اللغة بالمعنى الواسع وملكة اللغة بالمعنى الضيق. فعند النظر في بعض مميزات اللغة، مثل التكرار، لا ينبغي للمرء أن يفترض أن ذلك خاص بالإنسان حتى يبحث في تلك الخاصية عند مجموعة واسعة من الأنواع. أحد الأمثلة على تطبيق الأسلوب المقارن هو البحث في القدرات الحسابية للحيوانات الرئيسية غير البشرية من قبل فيتش وهاوزر (Fitch and Hauser, 2004)، الذين اختبروا قابلية سعدان أعلى القطن، وهو نوع عالم جديد من حيوانات الرئيسيات، بالإضافة إلى ضوابط بشرية لمعالجة أنواع مختلفة من القواعد النحوية. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي للمرء تقييد هذه الدراسات بالتواصل الحيواني؛ بل يجب على المرء التفكير في ‘الفرضية القائلة بأن التكرار تطور لحل مشكلات حسابية أخرى مثل الملاحة، أو تحديد عدد الأرقام، أو العلاقات الاجتماعية’، إلخ. وقبل أن نستنتج أن مثل هذه الخاصية هي فريدة من نوعها للغة البشرية، يجب أن نبحث عن هذه الخاصية في المجالات المعرفية الأخرى. فعلى سبيل المثال ، قد نختبر ونقارن خاصية التكرار في الرياضيات.
ولكن إذا تم اختيار وحدة للتكرار من نظام ملاحة للغة أو نظام آخر، فكيف سنقرر ذلك؟ أحد الامكانات هي ما سماه شوبين وآخرون (Shubin et al., 2009) “التماثل العميق’ (deep homology). جادل شوبين وآخرون (Shubin et al., 1997) بأن ‘الابتكارات الرئيسية (على سبيل المثال في اللواحق) تُشتق إلى حد كبير من الأنظمة التطورية الموجودة من قبل’ عن طريق تعديلات التغييرات التنظيمية الجينية بحيث ‘… يبدو أن نشوء أنواع الأطراف المشتقة بالتوالي، من فص أكياس بيض الجندب إلى أجنحة الحشرات، و من الزعانف إلى أطراف رباعية، يرجع جزئيا إلى التعاون المتعاقب وإعادة توزيع الإشارات الموجودة في المتزويات[2] البدائية’ .
يمكن أن تكون المبادئ في (ج) مبادئ غير خاصة بمجال معين أو غير خاصة بكائن حي معين. اقترح تشومسكي (Chomsky, 2005) مبادئ كالكفاءة الحسابية وتحليل البيانات. نريد أن نقترح التماثل كمرشح لمبدأ (مجموعة من المبادئ) يكون غير خاص بالمجال وغير محدد بالكائنات. يمكن طرح أسئلة مشابهة حول أي نظام بيولوجي، كبنية الفيروس العشريني، اخفاق البروتين، الانجذاب الكيميائي، التسمم الخلوي، الوظائف المعرفية، إلخ.
في السنوات الأخيرة ، حدث انفجار في الأبحاث في مجموعة متنوعة من المجالات (Boeckx and Grohmann, 2013 and Hogan, 2011). على سبيل المثال لا الحصر، الدراسات حول الصوت والبنية والمعنى في لغات العالم، بما في ذلك النحو العام والمقارن، التراكيب اللغوية، الدلالة، الصرف، الأصوات والصوتيات اللفظية والسمعية، اكتساب اللغة وفهمها، تغيّر اللغة (Radford et al., 2009)، دراسات الجينات المشاركة في اللغة البشرية (والأنظمة الحيوانية الأخرى)، اضطراب التعبير المكتسب (Grodzinsky and Amunts, 2006)، أعصاب اللغة، بما في ذلك الحبسة التعبيرية والتلقائية، التصوير والنشاط الكهربائي للدماغ (Stemmer and Whitaker, 2008)، دراسات على مرضى الدماغ المنقسم (Gazzaniga, 2005)، لغة الإشارة (Brentari, 2010)، لغات واللغات المختلطة والهجينة (Hickey, 2010)، علماء اللغة (Smith and Tsimpli, 1995 ) ، وعلم السلوك المقارن، والنشوء (Christiansen and Kirby, 2003)، والنمذجة الرياضية والأنظمة الدينامية، واللغة والرياضيات (Dehaene et al., 2007)، الخ.
كما يقوم علم اللغة البيولوجي بدراسة كيفية ارتباط بيولوجيا لغة البشر بالنظم المعرفية البشرية الأخرى وأسلافها في الأنواع الأخرى. لقد تم أثناء وبعد مشروع الجينوم البشري (Human Genome Project) تطوير عدد من الأدوات والتقنيات لتسريع البحث في جينات بأكملها، وكذلك للسماح بإجراء دراسة جينية مقارنة بين الرئيسيات غير البشرية مقابل البشر، حيث تشمل مثلا تقنيات صغرى، وتسلسل الجيل التالي، ودراسات ارتباط الجينات بالكامل.
يمكننا الآن فحص ومقارنة عينات الدماغ من الجنس البشري وغير البشري وطرح أسئلة مثل: ما هي الجينات وما هي مناطق الدماغ التي تسهم في اللغة والإدراك؟ لقد تم بالفعل تحديد عدد من الجينات المرتبطة باللغة والوظائف المعرفية الأخرى. تشمل الأسئلة الأخرى التي يتم دراستها ماهية الجينات المرتبطة باللغة / الإدراك التي يعبر عنها بشكل تفاضلي في دماغ الإنسان وفي الأنواع غير البشرية.
إن جين ‘FOXP2‘ هو أكثر الجينات المثرة على اللغة التي تمت دراستها على نطاق واسع. وبالطبع، فإنه من نافلة القول أنه لا يوجد جين واحد يمكنه تحديد آلية دماغ معقدة مثل لغة البشر. ونحن ننظر فيه هنا لأنه يقدم توضيحا مفيدا لكيف يمكن للمرء أن يشرع في حل خيط واحد من النسيج المعقد الذي يشكل التركيب الجيني للغة.
يبدأ المرء بسؤال ما هو النمط الظاهري للجين الشاذ. وفي هذه الحالة، درس هيرست وآخرون (Hurst et al., 1990) عائلة، أشار إليها فيما بعد باسم عائلة كي (KE)، وأفادوا بأن المشاركين المتضررين أظهروا عددا من العجوزات في الكلام في مجالات بناء الجملة، الدلالة والأصوات، وكذلك في مجالات أخرى مثل التعبير الصوتي. وعلاوة على ذلك، فقد قرروا أن نمط الوراثة كان سائدًا وراثيًا وأن حوالي نصف أفراد الأسرة الثلاثين كانوا متأثرين.
وقد توالت دراسات معمقة إضافية عن النمط الظاهري. قام غوبنيك و كراغو (Gopnik and Crago, 1991) بالتحقيق في حالات العجز النحوي في الصرف. وأبلغ فارغا-خادم وآخرون (Vargha- Khadem et al., 1995) عن ‘ضعف تلفظي ملفت للنظر’، وكذلك عيوب في ‘وظيفة التطبيق الشفهي’.، حيث يقولون أن “الأدلة من هذه العائلة لا تقدم بالتالي أي دعم لوجود ‘الجينات النحوية’.” ومع ذلك، فإن مفهوم “الجينات النحوية” لم ينظر إليه علماء الأحياء بشكل جدي مطلقا، على الرغم من تناقل الفكرة عدة مرات في وسائل الإعلام. حتى أن مؤلفي هذه الدراسة أقروا بأن الصعوبات اللغوية التي تواجهها عائلة ‘كي’ تشكل جزءًا بارزًا من نمطها الظاهري. إن دراسة الارتباطات العصبية والوراثية لاضطرابهم يمكن أن تكشف عن وجود معلومات مهمة حول بعض قواعد الملكات البشرية الأساسية للكلام واللغة.
وفي تحقيقات موازية، تم تحديد موضع الجين، الذي أطلق عليه ‘SPCH1’ ، وحدد تمركزه على الكروموسوم ‘7q31’، وتم بعد ذلك تسلسل الجين. تم تحديد تسلسل البروتين ووجد أنه يحتوي على شكل مربع مذراة (forkhead-box motif)، بحيث تم تسمية البروتين ‘FOXP2’ (انظر ماركوس وفيشر (Marcus and Fisher, 2003). وتم تحديد أن ‘FOXP2’ ينتمي إلى عائلة من عوامل النسخ وأنه بالتالي كان مشارك في تنظيم الجينات المستهدفة (للمراجعة ، انظر Fisher and Marcus, 2006). قام اينارد وآخرون (Enard et al., 2002) بتسلسل الحمض النووي المطابق لـ ‘FOXP’ في الشمبانزي، والغوريلا ، والقرد الأسيوي الصغير، والفأر ووجد العديد من الاختلافات في الحمض الأميني بين الشمبانزي والبشر، والتي تشير بقوة إلى أن هذا الجين كان هدف للاختيار خلال الفترة الأخيرة للتطور البشري.
استخدم كونوبكا وآخرون (Konopka et al., 2009) مجموعة بيانات مجهرية ممثلة للجينوم بأكمله من دماغ الإنسان والشمبانزي للبحث عن اختلافات في تنظيم الجينات للأهداف. ووجدوا أن الأهداف منظمة تفاضليا، مما يشير إلى أنها قد تلعب وظيفة مهمة في مسارات اللغة لدى البشر ( انظر Dominguez and Rakic, 2009 لمزيد من النقاش). وكما تظهر هذه الدراسات أيضًا ، فإن جين ‘FOXP2’ هو مكون واحد فقط من شبكة وراثية أكبر كامنة وراء ملكة اللغة الخاصة بالبشر. هناك العديد من الجينات الأخرى التي تؤثر على اللغة قيد التحقيق حاليا (انظر Graham and Fisher, 2013 و Jenkins, 2006).
كما أعلن وارين وآخرون (Warren et al., 2010) عن تسلسل جين العصفور المخطط، وبعدها أفاد هيليارد وآخرون (Hilliard et al., 2012) بأنهم قد “وجدوا ∼2,000 جين منظم للغناء … في المنطقة X، منطقة العقد القاعدية الفرعية المخصصة للألفاظ المتعلمة. وقد اشتملت هذه على أهداف معروفة لجين ‘FOXP2’ وأهداف محتملة للطيور (لمناقشة بعض الروابط المحتملة بين زقزقة الطيور واللغة، انظر Bolhuis et al., 2010).
الخلاصة
إن علم اللغة الحيوي يعتبر تخصص جديد بتاريخ طويل وأبحاث لازالت في المرحلة الأولية. ومن خلال تحليل الأدبيات، نجد أن هذا الفصل المتعلق بعلم اللغة البيولوجي يناقش أساسا الموضوع من ثلاثة جوانب: (أ) تعريف علم اللغة البيولوجي ونطاقه البحثي؛ (ب) القضايا التي تتم مناقشتها غالبا: السبب والدافع وراء صعود وانتشار علم اللغة البيولوجي؛ (ج) معرفة الباحثين اللغويين وفهمهم للفرص والتحديات التي تواجهها البحوث اللغوية في ظل علم اللغة البيولوجي.
نلاحظ أن علم اللغة الحيوي هو تخصص مشترك ناتج عن دمج علم الأحياء وعلم اللغة، ويتضمن تخصصات ونطاقات ذات صلة مثل علم اللغة والأحياء والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الأعصاب (Wu, 2012b). يأخذ علم اللغة الحيوي الدماغ البشري / العقل باعتباره الهدف الرئيسي للبحوث ويقترح اعتماد المنهجية الطبيعية، حيث أنه يمكن اعتبار اللغة ظاهرة طبيعية. ويسعى جاهدا للعثور على إجابات عن مسائل طبيعة وأصول واستخدام معرفة اللغة البشرية. ومن خلال البحث في الأدبيات ذات الصلة وجدنا أن مناقشات علم اللغة الحيوي بمعناه الواسع تقتصر ببساطة على الكتب المرجعية مثل الموسوعات والقواميس. بالإضافة إلى ذلك، يكشف تحليل الأبحاث الأكاديمية أن أبحاث علم اللغة الحيوي تُظهر مزيدًا من الاهتمام بمحتويات علم اللغة الحيوي بمعنى ضيق. بعبارة أخرى، تميل الأوراق الأكاديمية إلى وضع تركيز علم اللغة الحيوي على الخصائص النحوية المقترحة من قِبل مدرسة النحو التوليدية الفكرية التي يمثلها تشومسكي، والذي يعتبر اللغة ككائن طبيعي، والوظائف اللغوية كعضو بيولوجي فطري للدماغ البشري (Wu, 2012b). ونعتقد أن السبب الرئيسي للظاهرة المذكورة أعلاه يكمن في أن الموسوعات أو القواميس ككتب مرجعية يُفترض أن تقدم تعريفًا عامًا لعلم اللغة البيولوجي سواء بمعناه الواسع أو الضيق، نظرًا لأن التنظير حول علم اللغة الحيوي من منظور واسع نسبيًا يثبت أنه من طبيعة الكتب المرجعية. ومع ذلك، بقدر ما يتعلق الأمر بالبحث الأكاديمي، يتبين أنه من المستحيل أن يكون أي باحث لغوي على درجة عالية من التعلُّم بحيث لا يكون لديهم فقط خبرة جيدة في علم الأحياء، بل أيضًا في علم اللغة. ومن ثم فإن النتيجة الحتمية هي أنهم يسعون دائمًا إلى تحقيق مصلحتهم الأكاديمية في إطار ضيق من علم اللغة الحيوي.
ينسب أصل علم اللغة الحيوي إلى النجاح في علم اللغة التوليدي الذي يمثله تشومسكي. لاحظ علماء اللغة علم اللغة التوليدي في السبعينيات أن اللغة البشرية لها خصائص بيولوجية، حيث أُثبت هذا الاعتقاد العلمي وقبله العديد من علماء الهندسة الوراثية وعلماء الأحياء. في السنوات الأخيرة، أشار تشومسكي بوضوح إلى أن الناس سيجدون عاجلاً أم آجلاً الأساس الجيني المتنوع للكفاءة اللغوية، وأنه بمجرد أن يكتشف العلماء الاختلافات، فإنه سيكون بمقدور البشر البحث عن طرق جديدة تمامًا لدراسة الخصائص الداخلية للكفاءة اللغوية (Chomsky, 2007b). وبناءً على ذلك، يصبح دماغ الإنسان أو عقله موضوع الدراسة الرئيسي لعلم اللغة الحيوي، وسيمكن إجراء أبحاث اللغة على مستويات علم وظائف الأعضاء وعلم النفس اللذين يدعمان ويوجهان بعضمها. لقد استعار تشومسكي وحدة الفيزياء والكيمياء في التاريخ العلمي لتوضيح وحدة أبحاث الدماغ العلمية واللغوية. أجرى جينكينز (Jenkins) مقارنة متوازية بين وجهات نظر العلوم الصارمة وعلم اللغة، وأثبت أن أساليب البحث في العلوم الصارمة يمكن تطبيقها أيضًا على الدراسة البيولوجية للغة لكي نوحد العلوم الطبيعية وعلوم العقل (Tang, 2004). وبالنظر من زاوية الذاتية، فقد أصبحت أبحاث اللغات جزءًا من علم الأحياء، وهو ما مكّن علم اللغة الحيوي من الظهور. بالإضافة إلى ذلك ، فإن صعود علم اللغة الحيوي يستفيد بشكل مباشر من الاكتشافات الجديدة لعلم الأحياء، والنظام العصبي النفسي، وما إلى ذلك، بشكل رئيسي في الجوانب التالية: (1) التوليف الجديد والتوسع في مجال علم الأحياء، وهو ما يتطلب أن تكون أبحاث الأحياء متنوعة وداخلية ومنسقة، بينما تتوافق تمامًا مع المسار المناهض للسلوكية الذي تتبعه لغويات تشومسكي. وبناءً على ذلك ، قدم تشومسكي علم الأحياء النمائي التطوري (Evolutionary Developmental Biology, or Evo-devo) إلى علم اللغة الحيوي في المقام الأول، والذي فتح نافذة على سماء البحث اللغوي للنظر في النجوم البعيدة (Wu, 2012a) ؛ (2) معرفة المشكلة الرئيسية للتداخل بين التخصصات المتعلقة باللغة. بدا أن المشكلة مهمة في مجال علم اللغة العصبي، وخصوصا عند مقارنته بالتخصص المتكامل، حيث أن التخصص المتداخل ينقصه مستوى توصيف عام؛ (3) اكتشاف جين ‘FOXP2’ ، حيث تشير الأبحاث إلى أن ‘FOXP2’ ليس جينًا فريدًا. واحتراما للأخلاق، لا يمكن إجراء جزء من الأبحاث ذات الصلة على البشر كموضوعات تجريبية. ولذلك فقد أُجريت الأبحاث المتعلقة بجين ‘FOXP2’ على أنواع أخرى مثل الجرذان والطيور والخفافيش كعينات تجريبية؛ (4) تشكيل وتطوير البرنامج البسيط (minimalist program) المتعلق بعلم اللغة، حيث أن ظهوره جعل علم اللغة مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالعلوم المعرفية والفروع الأخرى للعلوم البيولوجية. (5) انتقال منظور علم النفس المقارن. اعتمدت البحوث المعرفية القارنة المبكرة على طريقة من أعلى لأسفل، لكن الكثيرين أدركوا أنه يمكن مشاركة العوامل المعرفية مع الأنواع الأخرى، ولذلك فإن هناك حاجة إلى طريقة من أسفل إلى أعلى تتوافق مع مناهج البحث في علم الأعصاب وعلم الأحياء التطوري (Boecks, 2011).
تتعايش الفرص والتحديات للباحثين اللغويين تحت خلفية علم اللغة البيولوجي. تشير الفرص المزعومة إلى تشكيل وتطوير البرنامج البسيط. ومع ذلك، فإن عددًا كبيرًا من الباحثين الذين يزعمون أنهم موافقون على البرنامج البسيط، لا يزالون، في الواقع، يكافحون مع وصف اللغات الفردية وتفسير الاختلافات بين اللغات بدلاً من إظهار الاهتمام الصادق بالخصائص العامة التي تمّكن من تطور اللغات البشرية. وبالتالي، فإنه لا يزال أمام البحث اللغوي طريق طويل. إن أخطر التحديات التي يواجهها الباحثون اللغويون هي حقيقة ما إذا كانوا منفتحين أو قادرين على إيجاد طريقة للتنوّع. فالافتراضات النظرية المختلفة لا تتنافر. وعلى النقيض من ذلك، فإن الأبحاث اللغوية المستندة إلى نظريات مختلفة تعتبر مفيدة في استكشاف تعقيدات الأعضاء البشرية (Boecks, 2011). وإلى جانب ذلك، فإن علم اللغة الحيوي متداخل بين علم اللغة وعلم الأحياء. ومن الصعب جدا على علماء اللغة أو علماء الأحياء امتلاك المعرفة المهنية في كلا المجالين. ومن ثم يجب أن تعتمد الأبحاث المستقبلية على العمل التعاوني بين الباحثين البيولوجيين واللغويين، وإلا فقد يكون من الصعب على علم الأحياء أن يحقق تقدماً.
استنادا إلى التحليل المذكور أعلاه من الأدبيات ذات الصلة المتعلقة بعلم اللغة الحيوي، يمكن استنتاج أن البحوث المستقبلية لعلم اللغة الحيوي ستتم في ثلاثة جوانب: (1) نشوء اللغة؛ (2) تطور اللغة الجيني؛ (3) آلية اللغة وملكة اللغة (Wu, 2012c). من المفترض أن يبدأ الباحثون اللغويون بعلم اللغة الحيوي بمعناه الضيق، مثل آلية التكرار اللغوي والأسس الفيزيولوجية، وآلية اكتساب اللغة عند الأطفال، إلخ. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يُترك علم اللغة البيولوجي بمعناه الواسع للباحثين البيولوجيين، مما يمكن الباحثين اللغويين من الاستفادة الكاملة من مزاياه، ويكون مؤاتيا أيضا لتطوير متناغم وصحي لعلم اللغة الحيوي كمجال متداخل بين علم الأحياء وعلم اللغة.
[1] للاطلاع على جزء من هذا التاريخ ، راجع Jenkins, 2000)) ، والعمل الأساسي في علم الأحياء واللغة للمؤلف لينيبيرج Lenneberg, 1967)) والتحليل الثاقب مؤخرًا لعمل لينينيرج من قبل بويكس ولونجا (Boeckx and Longa, 2011).
[2] الحيوانات التي تتألف أجسادها من خلايا كثيرة.