تخطى إلى المحتوى

الملكية الفكرية وخلق الإبداع

إن التعليم أساس بناء المجتمعات، ووجوده مرتبط بجودته، بحيث يتم تعليم الفرد ليكون كفؤًا في حياته وسوق العمل. وفيما بين خريجين بطالة، وموظفين بلا مهارات، نخسر الجهد ونضيّع الوقت والمال، وتتجه بلادنا نحو الانهيار.

غالبًا ما يُلفت انتباهُنا الأخطاء الإملائية  الشنيعة ليس فقط على خربشات الحيطان المنتشرة في ربوع ليبيا، أو حتى على منشورات الفيسبوك رغم اختلاف اتجاهات وتباين أعمار من خطّها، وهو ما يُعبّر عن تدني درجات محو الأمية في التعليم والمدارس.

وما يلفُت انتباهنا أكثر هو تضخّم أعداد خريجي جامعاتنا المتكدّسين في تخصّصات بعينها مما منعهم من حصولهم على العمل في مجالاتهم التي تراكموا فيها لسنين عدة. وهذا ما جعلني أبحث في أسباب ومدى جدوى التعليم والتعلم في ليبيا وجودته.

ورغم أن  العالم بأسره والدول العربية يحتفلون باليوم العالمي للملكية الفكرية في السادس والعشرين من نيسان/ أبريل من كل عام للإقرار بالإمكانات الهائلة التي يتمتع بها الشباب والكفيلة بإيجاد حلول جديدة وأفضل تدعم الانتقال نحو مستقبل مستدام، فإن من أهداف اليوم العالمي للملكية الفكرية دعم الشباب، ومساعدتهم على جعل أفكارهم واقعًا ملموسا يولّد لهم الدخل اللازم، ويخلق لهم فرص العمل المرجوّة، ويُحدث الأثر الإيجابي على العالم من حولهم. فحقوق الملكية الفكرية تمّكن الشباب من الوصول إلى الأساسيات التي يحتاجونها من أجل تحقيق طموحاتهم.

فمنذ الأزل كان ولا يزال الشباب هم الفئة المتميزة بسمات البراعة والإبداع والبصيرة والشجاعة التي تُشكّل قوة محرّكة للتغيير وشقّ أوعر السبل نحو مستقبل أفضل في جميع مناطق العالم. فشباب اليوم هم صناع التغيير المتّبعين للنهج العملي الذين يعبرون عن رأيهم ويتحدّون الوضع الراهن عبر العالم الرقمي الذي يعيشونه عبر هواتفهم المحمولة المتصلة بالإنترنت، حيث تتلاشى فيه كل الفواصل بين العالم الواقعي والرقمي، وهو الأمر الذي ولّد جيلاً يمتاز بروح المبادرة والابتكار والإبداع لحد الآن.

إن العقلية الإبداعية والابتكارية المدعومة بحقوق الملكية الفكرية، ستساعد حتمًا على إحداث تغيير في هذا العالم إذا ما اكتشفوا ما الذي قد تمدّهم به الملكية الفكرية. ولذلك يتوجب على المسؤولين عن وضع السياسات في ليبيا والعالم العربي إلى الانتباه للوازم وشواغل المخترعون والمبدعون وروّاد الأعمال الشباب حتى يتمكنوا من وضع سياسات وتخطيط برامج ترعى وتدعم الجهود التي يبذلها الشباب في سبيل الابتكار من أجل مستقبل أفضل.

ولكن هل رأيتم يومًا علمًا ليبيًا باللونين الرمادي والأسود  يتوسّطه هلالًا ونجمة باللون الأبيض؟ وماذا عن الورود السوداء؟ وفي حين أن كلاهما غير موجود في الحياة الواقعية، فحتما ستجدهما في كتب العلوم والدراسات الاجتماعية المقرصنة في جميع أنحاء العالم. هذان المثالان عبارة عن خطأين ناجمين عن قيام القراصنة بنسخ المستندات بشكل غير قانوني أو بعمل نسخ متدنية الجودة أحادية اللون من الكتب الملونة المحمية بحقوق الطبع والنشر. ولكن هناك المزيد من القضايا التي يجب ملاحظتها عند الاحتفال باليوم العالمي للملكية الفكرية في 26 أبريل من كل سنة.

فعلى سبيل المثال، سيكتشف المطّلع على الكتب المدرسية إن  شكلها لم يتغيّر منذ عقود، بما في ذلك طريقة إخراجها والرسومات التي تحتويها، وأن داخلها أخطاءًا متعددة مما يؤكد أنه لم تتم صياغتها بعناية، وأنها لم تنل الزمن الكافي لمراجعتها وتدقيقها، ولذلك فقد احتوت على أخطاء ونقائص، ناهيك عن عدم توافر أدلّة تدريسها والأقراص المدمجة المصاحبة لها، وهو ما أجبر الأساتذة للجوء إلى مراجع خاصة لتدريس المواد المناط بهم تعليمها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المنهجية المعتمدة لا تُراعي، في أغلب الأحيان، تطابق الكتب مع البرامج المخطط لها، حيث أن هذه الكتب فيها نقائص وخلطا في المعلومات. وقد تناولت إحدى الندوات التي شملت مدرسي مادة الرياضيات والموجهين التربويين والخبراء في محاورها الأساسية مناقشة الأخطاء الشائعة في كتب الرياضيات أو عند المعلم وطرق معالجتها .وحتى بعد تعديل المناهج التي تتطلب مهارات استخدام الحاسوب والإنترنت من قبل المعلم والطالب، برزت إشكالية افتقار العديد من معلمي ومعلمات تلك المناهج إلى مثل هذه المهارات. ومما زاد الطين بلة هو ظهور ما يسمى بالأسئلة الاسترشادية التي احتوت على العديد من الأخطاء المطبعية وعدم تنسيقها بالشكل الصحيح، بالإضافة إلى تأخر وصول الكتاب المدرسي لهذه السنة.

لقد ولًد هذا الأمر ضغطًا على الأسر محدودة الدخل التي لا يمكنها توفير النسخ المصورة لجميع الكتب لأبنائها مما جعل الكثير من الخيرين يقومون بدفع التكاليف المالية لتصوير كامل المنهج والتبرع بالكتب القديمة لتلاميذ الأسر الفقيرة، وهو ما قد ينعكس سلباً على تعزيز الفروقات الفردية والتميّز بين التلاميذ الذين يتشاركون مع زملائهم الكتب المدرسية المصورة ويتناوبون عليها يومً بيوم.

ورغم الظروف التي أجبرت أولياء الأمور ومدراء المدارس على هذه الأفعال، ولو عن حسن نية، يدعونا للتساؤل حول موضوع الملكية الفكرية في ليبيا. فعلى عكس الناشرين الذين يتمتعون بسمعة طيبة ويحاولون جاهدًا الحفاظ عليها، ليس لدى القراصنة أي حافز لضمان جودة المحتوى الذي يقومون بنسخه أو تزويره. لذلك، ربما ستجد كتاب رياضيات للأطفال في سن السادسة في بلدنا يخبر الأطفال أن 20 + 20 = 4. فالمطابع العريقة تقوم بجولات عديدة من التدقيق اللغوي والتحقق من الحقائق للتأكد من أن مثل هذه الأخطاء، كحذف أو زيادة حرف أو رقم، لا تحدث على الإطلاق. وعلى المرء أن يُفكّر فقط في عدد العقول التي يمكن تضليلها من خلال خطأ فردي كهذا.

تشير هذه القصص إلى حقيقة خطيرة للغاية. ففي كل عام ، تعاني ليبيا من خسارة ملايين الدولارات في الكتب المدرسية ومبيعات الكتب المفقودة بسبب انتهاكات حقوق الملكية الفكرية، وفقًا للواقع الذي نعيشه كل عام دراسي، حيث يتم استيراد الكتب المدرسية سنويا وتوزع مجانًا على المتعلمين دون أي رسوم قد تردعهم عن اتلافها. وفي ضل هذا التغيير الشبه سنوي في إعداد المناهج، ظهر نوعًا ذكيًا من أنواع الفساد، حتى وإن لم يكن متعمدًا، متخصصًا في استبدال المناهج، مما يعني صرف أموال طائلة للمحققين والمشرفين على الطبعة الجديدة، ولكن الحيلة المتبعة هنا هي تصويب خطأ وإحداث خطأ آخر في الكتب ذاتها.

القرصنة تثبط البحث والابتكار

تشير الملكية الفكرية إلى إبداعات العقل التي تمنح المبدع حقوق حماية مثل حقوق النشر والعلامات التجارية، والأهم من ذلك، العائدات من استخدام أو بيع المحتوى الخاص بهم. لقد مكّنت العائدات الناتجة عن حقوق الملكية الفكرية جوان كاثلين رولينغ (Joanne Kathleen Rowling)، التي كانت أماً عزباء تكافح من أجل دعم الرعاية الاجتماعية، من الترفيه عن ملايين الأشخاص حول العالم من خلال الأفلام والمنتزهات الترفيهية والبضائع المبنية على المحتوى المحمي بحقوق الطبع والنشر لكتبها هاري بوتر (Harry Potter books).

يعتبر أي استخدام غير مصرح به للملكية الفكرية قرصنة وكل عملية بيع لكتاب مقرصن في ليبيا تحرم المؤلف من مكافآت إبداعاته وابتكاراته. في الواقع، إن ضعف حماية الملكية الفكرية في ليبيا يعني أن الكتّاب والمؤلفين المشهورين سيضطرون إلى القيام بوظائف لا علاقة لها بمهنتهم لتغطية نفقاتهم. وتخيل ما كان بإمكان مثل هؤلاء إنتاجه في الوقت الذي يقضونه في كسب لقمة العيش؟

فعلى المدى الطويل، نجد أن القرصنة لا تشجع البحث والابتكار بسبب السهولة التي يمكن بها قرصنة الأعمال الإبداعية التي تستغرق سنوات من الجهد في غضون أيام. هذا يعيق مخرجات جامعاتنا وخلق المعرفة الجديدة التي من شأنها أن تضيف قيمة إلى مجتمعنا واقتصادنا.

لا يتم تشجيع الشباب على أن يصبحوا مؤلفين بسبب ضعف الحوافز المالية وهذا يعني أن جيلنا الشاب سوف يفتقر إلى الوصول إلى المحتوى المحلي الأصلي الذي يعالج المشاكل المحلية. بالتأكيد، يمكننا الاستمرار في استيراد الإصدارات القديمة من الكتب المدرسية من الخارج لتعليم أطفالنا، ولكن من خلال القيام بذلك، ألا نحرمهم من متعة التعلم عن شيء يمكنهم الارتباط به؟

إذن، ما الحل؟ على الرغم من أن ليبيا أصدرت قانون حماية حق المؤلف رقم (9) في 16 مارس سنة 1968م، وهي عضو في اتفاقية إنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية في 28 سبتمبر 1976م، وأصدرت منذ ذلك الحين العديد من القوانين واللوائح المنظمة لحماية الملكية الفكرية، إلا أن العديد من القضايا لازالت تُرفع في المحاكم منذ عقود. والأسوأ من ذلك، فإن سرقة المحتوى المحمي بحقوق الطبع والنشر وإعادة بيعه يُنظر إليه على أنه سلعة اجتماعية من قبل الجماهير، الذين اعتادوا على تنزيل الأفلام والأغاني عبر الإنترنت، وإعادة توجيه الكتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة مقاطع الفيديو على يوتيوب حيث يوجّه الشخص كتابًا إلى كاميرا الهاتف ويقوم بتصوير كل صفحاته.

ومع ذلك، إلى جانب التشريعات الأكثر صرامة والتنفيذ الأقوى للقوانين، يحتاج الفنانون والمؤلفون في جميع أنحاء البلاد إلى العمل معًا لإطلاق حملات توعية تسلط الضوء على الآثار الضارة العديدة للقرصنة. إن ضعف إنفاذ حقوق الملكية الفكرية يعني أن معظم الشعراء والمؤلفين وغيرهم من المبدعين والمبتكرين ليس لديهم مصدر دخل مستدام بعد تقاعدهم أو بعد توقفهم عن الإبداع، حيث يموت الكثير منهم فقراء بينما يجني القراصنة المكافآت المالية.

إن هذا الأمر مخجل جدًا، لأنه بينما نحترم أعمال المؤلفين والفنانين ونقدّر قيمتها، إلا أننا لا نرغب في شراء عملهم الحقيقي الأصلي أو فرض حماية الملكية الفكرية التي تحمي مساهمتهم الفريدة في المجتمع. فالبلدان التي تتمتع بثقافة قوية في القراءة والكتابة تمتلك الأسس اللازمة لتصبح ’اقتصادات المعرفة‘ التي ثبت أنها أكثر ازدهارًا من الدول الأخرى. ولذلك فإن حقوق الملكية الفكرية القوية أمر لا بد منه لتنمية المواهب والمؤلفين والفنانين والصناعات الإبداعية وازدهار ليبيا ككل.

اسمحوا لي أن أختم بقصة شخصية: سألت شابًا مؤخرًا قال لي أنه يريد أن يصبح كاتبًا. وعند سماع عمه لذلك ضحك على فكرته قائلاً إن الكتابة مجرد تعب وشقاء وليست مهنة. إن المأساة أنه في الظروف الحالية، فإن وجهة نظر عمه صحيحة للغاية ومن المرجح أن يتم تحديد اختيار الشاب للمهنة من قبل القراصنة الذين يجنون المكاسب المالية لتطلعات الآخرين وعملهم الجاد.

المراجع

فحيل البوم، رضا (2014). مناهج التعليم الليبية: اطلب العلم ولو من سنغافورة! وثيقة إلكترونية على موقع مراسلون (https://correspondents.org) تم الوصول إليه يوم 12/05/2022.

صحيفة العنوان (2018). ندوة علمية حول مادة الرياضيات في غات. وثيقة إلكترونية على موقع صحيفة العنوان (https://www.addresslibya.com) تم الوصول إليها يوم 11/05/2022.

موقع أخبار ليبيا 24 (2021). ضغوطات تواجه أسر الطلبة الليبيين والسبب فشل وزارة التعليم في توفير الكتاب المدرسي. مقال تم الوصول إليه يوم 12/05/2022. (https://akhbarlibya24.net)

موقع العربي الجديد (2022). مساعٍ لتوفير الكتاب المدرسي في ليبيا. تم الوصول إليه يوم 12/05/2022.

< https://www.alaraby.co.uk/>

Azrights.com (2016). What JK Rowling Needed To Know About Intellectual Property law (2016). A www document found at:

 < https://azrights.com/media/news-and-media/blog/2016/12/what-jk-rowling-needed-to-know-about-intellectual-property-law/#> Accessed on 10/05/2022.

nv-author-image

فرج صوان

استاذ علم اللغة التطبيقي و اللغة الإنجليزية في جامعة طرابلس وعدد من الجامعات الليبية. حصل على الشهادة الجامعية والماجستير من ليبيا، وشهادة في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة سري البريطانية (Surrey)، ودرس برنامج الدكتوراه في جامعة إيسيكس ببريطانيا (Essex). نشر ثمانية كتب والعديد من المقالات والبحوث. مهتم بالملف الليبي والعربي والاسلامي بجميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الوسوم:
نقترح عليكم
تشير طرق التدريس لأساليب مختلفة يستخدمها المعلم لتوصيل مواد مادته…
Cresta Posts Box by CP
إظهار شريط المشاركة
إخفاء شريط المشاركة