
بالنسبة إلى أنصاره، فإن خليفة حفتر هو مقاتل ذو قدرة خارقة ضد الميليشيات المتطرفة التي جلبت الفوضى بعد سنوات من ثورة الربيع العربي في البلاد. أما لأعدائه، فحفتر ليس ألا تجسيدا لمعمر القذافي.
وبالنسبة لحفتر نفسه، فتعيينه هو تحقيق لطموح رعاه خلال عقود من النضال – الفريق البالغ من العمر 72 عاما نُصب في النهاية قائدا للجيش الليبي. لغز، صارم ومولعا بتصميم أزياءه الخاصة، ويصر على أنه في مهمة لإنقاذ ليبيا. ولكن حتى أنصاره يتساءلون هل ستمتد طموحاته إلى ما وراء الجيش، وعما إذا كان لديه نية استنساخ مثال القائد العسكري السابق لمصر عبد الفتاح السيسى في أن يصبح رئيسا. وعلى كل حال، فالليبيين الآن على وشك معرفة ذلك.
وكان الجدل ثابتا في حياة حفتر، فقد أيّد منذ عام 1969، عندما كان ضابطا شابا، انقلاب القذافي الذي أطاح بالملك إدريس السنوسي. كان القصد من الانقلاب تنظيف النظام الملكي المتعفن والفاسد واستبداله بقادة ملتزمون بالعدالة والإنصاف. ومثل معظم الانقلابات، تحول القذافي بسرعة إلى أكثر الأنظمة فوضوية وشراسة واستبدادا في العالم. لقد علق القذافي المعارضين الليبيين على أعمدة الانارة، وبرع في تعذيبهم في السجون أو ذبحهم بالآلاف جماعيا.
أثناء حكم القذافي، ازدهرت حياة حفتر في البداية، ففي عام 1973، أرسله القذافي على رأس مفرزة ليبية صغيرة لدعم القوات المصرية في حربها مع إسرائيل. وبعد عقد من الزمان، قاد غزو القذافي الكارثي لتشاد. وبعدها في عام 1987، هزمت القوات التشادية المدعومة من أمريكا وفرنسا، قوات القذافي وتم أسر حفتر. وأثناء سجنه كأسير حرب، تبرأ حفتر من القذافي، وفورا اغتنم الفرصة عندما عرضت عليه وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الفرصة لقيادة قوة معارضة ضد القذافي.
كانت خطة وكالة الاستخبارات المركزية مستلهمة من نجاح الشيوعي الثوري فيدل كاسترو الذي نزل في كوبا في عام 1956 مع 81 رجلا فقط، وخلال ثلاث سنوات أطاح بالحكومة. شكلت السي أي أى كوادر مماثلة في جميع أنحاء العالم من المقاتلين ولم تكن مجموعة حفتر استثناءًا، ولم تزد أبدا عن 400 عضو. لكنهم لم يتحصلوا على فرصتهم. أصبح القذافي مهووس بالأمن، واشتمام المعارضة. ولذلك وجهت القوة إلى أمريكا وتم حلها في عام 1990.
ومرة أخرى في ليبيا، بدأت المقاومة المسلحة ضد القذافي من قبل الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة المتشددة التي خاضت وخسرت الانتفاضة المسلحة في الجبل الأخضر شرق البلاد. لم يعد حفتر جنديا، واستقر في فولز تشيرش بولاية فيرجينيا، بالقرب من مقر السي أي أى، ليقوم برعاية عائلته. وكان سيبقى هناك في المنفى ويظل في طي النسيان، لو لم يحل ما يسمى بالربيع العربي في عام 2011.
عندما اندلعت الثورة في ليبيا، هرع حفتر وعاود الظهور على أمل أن يتولى قيادة جيش المتمردين. ولكن لم تتحقق طموحاته، لأن المتمردين فضلوا وزير الداخلية المنشق عن القذافي، عبد الفتاح يونس، الذي جلب معه لواء وزارة الداخلية. كان حفتر أيضا في منافسة مع غيره من المنفيين من الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة السابقة، والعائدين إلى الاستمتاع بالداعمين الأقوياء والكثير من المتطوعين الشباب المتحمسين. فحتى اغتيال عبد الفتاح يونس من قبل المتطرفين في ذلك الصيف لم يفتح الباب أمام حفتر، الذي لم يكن ليفوز على الميليشيات الغربية القوية من مصراته والزنتان، التي سيطرت على طرابلس وفازت بالحرب.
انتقل حفتر إلى طرابلس مع ميليشياته الخاصة، بالاسم المشوش ‘الجيش الوطني الليبي’، إلا أن صدامه مع ميليشيات الزنتان في محاولة فاشلة للاستيلاء على مطار طرابلس جعل ميليشيات الزنتان تطلق النار على احد ابناءه واصابته بعد ذلك بوقت قصير. بدى للكثيرين أن طموحات حفتر انتهت وأنه اختفى في الغابة السياسية.
ولكن كان لحفتر ورقة رابحة وهي الروابط التي شكلها عبر عقود مع ضباط الجيش وسلاح الجو. كان هؤلاء الضباط مستائين من القذافي لتحويله الموارد إلى ألويته الديكتاتورية الخاصة. وقد أصبحوا مستائين من الحكومة الجديدة، التي تهيمن عليها جماعة الإخوان المسلمين، وتحول الموارد إلى ميليشيات ودروع ليبيا التابعة لها.
وبحلول فبراير عام 2014، كانت البلاد في حالة من الفوضى، حيث رفض المؤتمر الوطني الدعوة لإجراء انتخابات بعد انتهاء المدة المقررة له. ظهر حفتر على شاشات التلفزيون في الزي العسكري الكامل، حيث بدا وكأنه انقلاب، معلنا بطلان المؤتمر وإلغائه. و لم يحدث شيء في الساعات التي تلت بعد ذلك، ولم تلبي وحدات الجيش نداء حفتر، وبدا أنه قد ضيع فرصته.
ولكن بمرور الشهور، وبدون اجراء أي انتخابات، نمت شعبية حفتر. في مايو، أطلق عملية الكرامة، متعهدا بتخليص ليبيا من جماعة الإخوان المسلمين وميليشياتها، الذين وصفهم بالإرهابيين. اقتحمت الزنتان التي تحالفت معه المؤتمر آنذاك، وهاجمت القوات المسلحة الليبية، المدعومة من قبل القوات النظامية، الميليشيات في بنغازي، المدينة الثانية في ليبيا.
رضخ المؤتمر لحتمية الانتخابات ودعا الى بدءها في يونيو. وعندما خسر مرشحي الإخوان المسلمين في الانتخابات، تمردوا عليها خوفا من الانتقام على أيدي أعدائهم. حوّل دروع ليبيا نفسها إلى ما يسمى ‘فجر ليبيا’ وسيطرت على طرابلس بعد ستة أسابيع من القتال، وهرب البرلمان المنتخب حديثا إلى مدينة طبرق في الشرق.
في البداية حافظ البرلمان الجديد على بعده من حفتر، خوفا من انه سيكون منافسًا سياسيًا له. ولكن في الأشهر التي تلت ذلك، انزلقت ليبيا إلى حرب أهلية وبدأت قوات عملية حفتر، الكرامة، يقاتلون جماعة فجر ليبيا. تحولت المعركة من أجل بنغازي إلى مباراة تلاطمية حيث الأيدي القديمة على كلا الجانبين، وكان ذلك كإعادة للمعارك التي دارت بين الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة والجيش الليبي قبل عقدين من الزمن.
وبحلول فصل الشتاء، بني حفتر الدعم ووجد البرلمان ان قوة الجيش الصغيرة وقوات السلاح الجوي يأخذون الأوامر من حفتر، وليس من السياسيين. وبينما أبدى العديدين فتورا حول حفتر، انتشر وتوسع دعم عملية الكرامة ومعارضتها لجماعة الإخوان المسلمين على نطاق واسع. يمكن ملاحظة العدد الكبير من لافتات الكرامة في الاحتجاجات المؤيدة للحكومة وكذلك اللافتات الداعمة للواء حفتر نفسه. بالنسبة لكثير من الليبيين، أصبح حفتر هو قائدهم، حيث أصبح العديدين يدعمون ما يقوم به، ولكنهم لا يريدونه أن يستولي على السلطة.
وبحلول نهاية العام، كانت قوات حفتر قد حققت التفوق بفضل القوة العسكرية الجوية والفضل يرجع لتوسيع الدعم الجوي المقدم من مصر كما تشير التقارير.لقد دمرت الضربات الجوية ألوية الميليشيات المسلحة في بنغازي، ودفعتهم إلى جحور صغيرة. تم قتل المئات وتحول أجزاء من المدينة إلى أنقاض. كما تم أيضًا صد هجوم فجر ليبيا الذي يهدف للسيطرة على موانئ النفط في الشرق.
ربما قد يسحب اتفاق السلام البساط من تحت حفتر، ولكن عندما أجرى مبعوث الامم المتحدة، برناردينو ليون، محادثات السلام في جنيف في شهر يناير، رفضت فجر ليبيا المشاركة. وبتضاعف الدمار، انهارت الارضية لأي جهود لازمة للوساطة. ثم جاءت الدولة الإسلامية حيث هاجمت الجماعة الإرهابية منذ يناير كلًا من فجر ليبيا والقوات الحكومية، بالإضافة لتسببها في الغارات الجوية المصرية.
لقد انتشر تنظيم الدولة الإسلامية داعش مع ازدياد تفاقم الحرب، ولا توجد أي علامة على المساعدة من المجتمع الدولي؛ وموقف طبرق، مثل موقف خصومه فجر ليبيا، زاد تصلبًا. وبانتشار داعش حان وقت إضفاء الطابع الرسمي على قرار تعيين حفتر. قرار إعادته إلى الجيش وجعله قائده يعتبر اعتراف صريح بالواقع. حفتر هو الذي يقود القوات الموالية للحكومة بالفعل، حيث يتلقون الأوامر والتعليمات منه هو وليس من رئيس الوزراء المعين عبد الله الثني.
حقق حفتر هذا الشخصية لكونه صريح بشكل غير معتاد. السياسيين الليبيين، حذرون بشكل مميز من جميع الجوانب، وغالبا ما يبدون متحوطين في رهاناتهم. ولكن ليس حفتر، فقد أعلن انه ترك الحياة الأسرية المريحة فقط لأن أنصاره رجوه أن يحفظ ليبيا، وصوروا نضاله كمصير حتمي.
وضع حفتر على مدى الأشهر، مواعيد نهائية لاسترجاع بنغازي والالتفات لطرابلس لكنه فشل في ذلك، ولكن بتدفق المعدات من مصر، فهو واثق ان قوات الكرامة الآن على شفا تحقيق ذلك. لقد نسف تعيينه الفرص الضئيلة الموجودة للتسوية لا سلمية حيث من غير المرجح أن تجلس معه فجر ليبيا على طاولة واحدة باعتباره الرجل الذي أعلنوا أنه إرهابي.
ولكن بعد انتصاره على الارهابيين في بنغازي وهزيمة داعش في سرت تغيرت قواعد اللعبة، حيث أصبح الاتفاق الهش الذي تم توقيعه في الصخيرات يلوح كبارقة أمل لليبيين. تدارك السياسيين الوضع وقاموا بإجراء الكثير من المحادثات والمفاوضات التي أدت في النهاية إلى لقاء حفتر بالسراج وظهور بوادر للتوافق الذي ينشده الليبيين. ولكن بالرغم من الجهود المبذولة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، لا زال تحالف الاسلاميين يرى في تعيين حفتر قائدا للجيش نكسة ويجادلون بأنه يُظهر إلى أي مدى ترى حكومة البرلمان الآن أن حل الأزمة في ليبيا يجب تحقيقه من خلال الوسائل العسكرية.
اليوم، ليبيا هي من دون شك أسوأ حالا مما كانت عليه في ظل القذافي. والحقيقة هي أنه على الرغم من أن القذافي كان سفاح، إلا أن ليبيا كانت أكثر استقرارا تحت سيطرته. لقد قتل الالاف وهناك مئات الآلاف من النازحين مع انعدام القانون وانهيار النظام في العديد من المدن. الشبكة الكهربائية لا يمكن الاعتماد عليها بدرجة كبيرة. وقد انخفض الدخل من النفط وبالتالي أصبحت العديد من العائلات التي تعتمد اعتمادا كبيرا على الدعم الحكومي فقيرة. أصبحت الديمقراطية في ليبيا، كما يعرف الغرب، لا يمكن الدفاع عنها، حيث طفت الولاءات القبلية والجهوية والدينية على السطح مرة أخرى.
لا يمكن ان يُسمح لدولة فاشلة بحجم ليبيا أن تتوقف لأنها قضية أمن قومي بالنسبة للمنطقة. وكلما سارعنا بجعل ليبيا تحت سيطرة الحكومة المركزية كلما حققنا سيطرة أكثر على الفوضى في شمال أفريقيا. خليفة حفتر، على عكس القذافي، هو شخصيا ليس مجنونا و ليس مزاجيا وقد تعلم من أخطاء القذافي. من الواضح انه يدعم الديمقراطية وهو رجل قوي في التدريب ولكن ربما هذا هو ما تحتاج إليه بعض البلدان بعد ما يسمى بالربيع العربي.
يتباكى الكثيرون في ليبيا بالفعل على أيام معمر القذافي الذي كان حكمه غريب ولكنه مع ذلك مستقر نسبيا. الليبيين لديهم فرصة هنا للحصول على قائد قوي بسهولة. فبأقل من سعر التدخل الأجنبي الذي كلّف الليبيين آلاف الأرواح وما يقارب المليار دولار يمكن لليبيين والعالم كسب حفتر كقائد قوي يساهم في استقرار ليبيا وشمال أفريقيا.
للأسف تفكير الغرب والادارة الأمريكية بشأن العلاقات الدولية يجعل هذا مستحيلا، حيث أنهم ينفرون من الزعماء المستبدين في الشرق الأوسط بغض النظر عن موقفهم كمؤيدين أو مناهضين لهم. يبدو أن الغرب وأمريكا لم يعو بعد أن الربيع العربي الذي تمت الإشادة به سابقًا قد تحول إلى حلقة مرعبة بالنسبة للكثيرين.
معظم دول الشرق الأوسط وخصوصا ليبيا لم تكن جاهزة لثورات ديمقراطية وأنها بدون طغاة أشداء فستكون في نهاية المطاف إما مثل إيران بحكومة ثيوقراطية أو سيتم تدميرها وملئها بالنفايات من قبل الميليشيات المتناحرة في الحروب الأهلية التي قد تنتهي بتفكك الدول ذات السيادة إلى ولايات اقطاعية، جهوية، قبلية أو عرقية صغيرة. يقدم خليفة حفتر فرصة للغرب لإصلاح ليبيا بعد تدخل الغرب في ليبيا عندما تمت الإطاحة بالقذافي.
يجب على الغرب والولايات المتحدة احتضان الفريق حفتر وتسليح جيشه من أجل توحيد ليبيا ووضع حد لجنون الفوضى التي اجتاحت هذا البلد منذ وفاة القذافي. أما ما إذا كان الفريق حفتر لديه طموحات سياسية مخبأة وراء دوره العسكري فهو سؤال سنرى الإجابة عليه في المستقبل. في الوقت الراهن، احد الأشياء القليلة التي يمكن أن يتفق عليها معظم الأطراف هو أن تعيينه يعني أن ليبيا قد دخلت في زمن بناء المؤسسات.