تخطى إلى المحتوى

اللورد موندراجو

نظر الدكتور أودلن إلى الساعة على طاولته، كانت الساعة السادسة إلا عشرون دقيقة. اندهش الدكتور أودلن لأن اللورد موندراجو الذي كان يتباهى بحرصه على المواعيد قد تأخر.
كان في العادة يقول إن الحرص على المواعيد تهذيب للذكي وسمة لوم للغبي. كان موعد اللورد موندراجو ف الخامسة والنصف. لم يكن أي شئ في ملامح الدكتور أودلن يلفت الانتباه. كان طويلا ونحيفا وله كتفين ضيقين. كان منحنئًا قليلا، شعره أشيب، ومتفرق، ووجهه الطويل الشاحب مجعّد بعمق.
لم يكن يتعدى الخمسين ولكنه بدا أكبر من ذلك. عيناه الزرقاء الشاحبة والواسعة نوعًا ما كانت متعبتين. عندما تبقى معه لفترة

من الوقت ستلاحظ أنها تتحركان قليلًا جدًا، بل تبقيان ثابتة على وجهك ولكنها خاليتن من أي تعبير ولا تسبب أي قلق. نادرًا ما تلمع ولا تعطي أي فكرة عن أفكاره ولا تتغير بالكلام الذي ينطق به. يداه كانت كبيرة نوعا ما وبأصابع طويلة، كانت ناعمة ولكن قوية، باردة ولكن ليست رطبة. لا يمكنك أبدا أن تقول ماذا يرتدي الدكتور أودلن إلا إذا نظرت خصيصًا. ملابسه كانت داكنة وربطة عنقه سوداء، ملابسه جعلت وجهه المجعد الشاحب أكثر شحوبًا. لقد بدا رجلاً مريضًا.

كان الدكتور أودلن محللًا نفسيًا. دخل المهنة صدفة وبرع فها بارتياب. عندما بدأت الحرب لم يكن مؤهلا تماما، وكان يتدرب في مستشفيات مختلفة، فعرض خدماته وبعد فترة أُرسل إلى فرنسا. عندها اكتشف مزاياه الفريدة. باستطاعته إيقاف بعض الآلام بلمسة يديه الباردة القوية وبالتحدث إلى الرجال الذين يعانون من عدم النوم استطاع أن يجعلهم يناموا. كان يتكلم ببطء. لم يكن لكلامه خاصية متميزة وصوته لم يتغير بالكلمات التي استعملها، ولكنه كان موسيقيًا ورقيقًا.قال للرجال إنه يجب أن يرتاحوا ولا يقلقوا، وأنه يجب عليهم النوم. دبت الراحة في عظامهم المتعبة، ودفع الهدوء قلقهم بعيدًا كرجل وجد لنفسه مكانًا على مقعد مزدحم حيث هجم النوم على جفونهم كالمطر الخفيف المتساقط على الأرض في الربيع.


وجد الدكتور أودلن أنه بالتحدث إلى الرجال بصوته المنخفض وبالنظر إليهم بعينيه الهادئتين الشاحبتين وبلمس رؤوسهم المتعبة بيديه الطويلتين القويتين صنع أدوية بدت عجيبة جدًا لتكون طبيعية. لقد أعاد الكلام لرجل كان غير قادر على الكلام بعد أن دفن تحت الأرض في انفجار وأعاد إلى رجل كان لا يستطيع أن يتحرك، حركة أطرافه بعد أن أسقطت طائرته.
لم يكن باستطاعته أن يفهم قوته. يقولون في حالات من هذا النوع إن أول شئ يكون هو أن تصدق بنفسك ولكنه لم ينجح أبدا في فعل ذلك، ولكن نتائج عمله كانت واضحة لأي شخص وجعلتهم بسلموا بأن لديه ميزة غريبة سمحت له بفعل أشياء والتي لم يستطع إيجاد أي توضيح لها.
عندما انتهت الحرب ذهب إلى فينا ودرس هناك وبعدئذ ذهب إلى زيورخ ومن ثم استقر في لندن ليطبق المهارة التي تحصل عليها بغرابة. مارس مهنته لمدة خمسة عشر عامًا وكان مشهورًا حيث تحدث الناس لبعضهم البعض عن الأشياء العجيبة التي قام بها. ورغم أن مهامه كانت رفيعة إلا أن الكثيرين يأتون لأخذ نصيحته. هو يعرف أنه عمل كثيرًا من الخير في العالم وأنه أعاد الصحة والسعادة إلى الكثيرين، ولكنه في ثنايا فكره لم يكن متأكدًا كيف فعل ذلك. لم يحب استعمال القوة التي لم يستطع فهمها واعتقد أن استعمال ثقة الناس يعد خداعًا حيث أنهم جاؤوه عندما لم تكن لديه ثقة في نفسه.
لقد كان غنيًا بما فيه الكفاية ليعيش بدون عملًا الآن، فقد أتعبه العمل جدًا. اثني عشرة مرة كان على وشك أن يتقاعد. لقد رأى الكثير من الطبائع الإنسانية خلال خمسة عشرة سنة من العمل في شارع ويمبول. القصص التي قصّت عليه بالرغبة حينًا وخجلًا وغصبًا أحيانًا أخرى، لم تعد تدهشه منذ زمن طويل. لا شئ يهزه بعد الآن. لقد عرف الآن أن الرجال كانوا كاذبين إلى حد أنهم كانوا مغرورين،وعرف أسوأ من ذلك عنهم. ولكنه عرف إنه لم يكن واجبه أن يحكم .
لكن سنة بعد سنة هذه الحقائق الرهيبة التي قصّت عليه جعلت وجهه كئيب قليلا وخطوطه ملحوظة قليلا وعيناه الشاحبتين متعبة أكثر. نادرا ما يضحك ولكنه أحيانا يبتسم متى يقرأ كتاب. هل الكتّاب يفكرون حقًا أن الرجال والنساء الذين كتبوا عنهم كانوا كذلك؟ الرجال والنساء معقدين أكثر.
كانت السادسة إلا ربع. الدكتور أودلن لم يستطع تذكر أي حالة كانت أغرب من حالة اللورد موندراجو. كانت مميزة لشئ واحد وهو أن اللورد موندراجو كان ذكيًا ورجل مشهور. عين وزيرا للدولة في الشؤون الخارجية قبل أن يتعدى الأربعين من عمره. الآن بعد ثلاث سنوات في الوزارة فقد لاقى النجاح وكان من المتفق عليه عموما أنه أذكى رجل في حزبه، ولم يكن هناك ما يمنع اللورد موندراجو من البقاء كوزير للشؤون الخارجية في العديد من الحكومات القادمة.
حاز السيد موندراجو على الكثير من المزايا الجيدة وكان ذكيًا وعمل بجد. سافر كثيرًا وتكلم عدة لغات بطلاقة، وهو يعرف كثيرا عن الدول الأخرى ولديه الشجاعة والعزم، بالاضافة إلى كونه متحدثا جيدًا. لقد كان طويلا وبهي الطلعة لكنه سمين كثيرا. في سن الرابعة والعشرين تزوج فتاة في الثامنة عشرة والتي كان أباها أميرًا وأمها الأمريكية كانت غنية جدًا ولذلك امتلك ثروة ووضع جيد، وقد كان لديه ابنين. في الواقع كان لديه الكثير ومقدار عظيم لجعله مشهور ورجل ناجح، ولسوء حظه فإن لديه عيوب ساحقة.
لقد كان فخورًا جدًا. فقد حمل السادة موندراجو اللقب لأكثر من ثلاثمائة سنة وتزوجوا من أنبل عائلات إنجلترا، ولم يكن في حاجة ليكون فخورًا باللقب لكنه كان كذلك. لم تفوته فرصة لإخبار الآخرين عنه، فلديه طرق جميلة إذا أراد أن يتباهى عليهم ولكنه كان يفعل هذا فقط مع الناس الذين يعتبرهم أنداده فقط. لقد كان فظًا مع خدمه ومعاونيه، كما أن الموظفون الأدنى منه في مناصب الحكومة كانوا يخافونه ويكرهونه.
لقد كان يعرف أنه أذكى بدرجة كبيرة من معظم الأشخاص الذين عمل معهم ولم يتردد أبدًا في اخبارهم بذلك. ليس لديه أي صبر على ضعف الطبيعة الإنسانية ويشعر في نفسه أنه ولد ليحكم وكان يغضب عندما يتوقع منه الناس أن يستمع إلى مناقشاتهم أو عندما يرغبوا في سماع أسباب قراراته. لقد كان أنانيًا بفضاعة، ولديه الكثير من الأعداء وكان يفكر بهم بازدراء. هو لم يعرف أي أحد يستحق مساعدته أو رحمته. ليس عنده أصدقاء، ولم يكن شعبيًا مع حزبه لأنه كان متكبرًا جدًا، ولكنه أحب بلده كثيرًا ونظم العلاقات جيدًا، لذلك كان عليهم أن يتحملوا غروره. لقد كان بالامكان فعل هذا لأنه أحيانًا استطاع أن يكون فاتنًا إلى حد بعيد. بإمكانه أن يقص قصة جديدة وأن يكون طبيعيًا وحساسًا، بل باستطاعته أن يكون أفضل رفيق ف العالم وأنت تستطيع أن تنسى أنه أهانك بالأمس ولازال قادرا على إهانتك ثانية.
فشل اللورد موندراجو تقريب في مقابلة الدكتور أودلن في البداية. لقد اتصل سكرتيرًا بالدكتور وأخبره أن سيادته سيكون سعيدًا لو أن الدكتور أتى إلى منزله في العاشرة من الصباح التالي. أجابه الدكتور أودلن بأنه لم يكن قادرًا على الذهاب إلى منزل السيد موندراجو وأنه سيكون مسرورًا لرؤيته في مكانه بعد غد في شارع ويمبول. السكرتير أخذ الرسالة وبعدها بقليل اتصل ثانيةً ليقول أن السيد موندراجو عزم على رؤية الدكتور أودلن في بيته الخاص وللدكتور أن يطلب ما يريد. أجاب الدكتور أودلن بأنه يرى الناس في غرفته الخاصة فقط ووضح أسفه أنه مالم يكن السيد موندراجو مستعدًا للمجئ إليه فإنه لن يعيره أي اهتمام. بعد ربع ساعة أُرسلت إليه رسالة قصيرة بأن سيادته سيأتي ليس بعد غد ولكن في اليوم التالي عند الساعة الخامسة.
عندما أُذن للسيد موندراجو بالدخول لم يتقدم ووقف عند الباب ونظر إلى الدكتور أودلن من أعلى إلى أسفل بازدراء. فهم الدكتور أودلن أنه كان غاضبًا ونظر إليه بهدوء بعينيه الساكنتين فرأى رجل سمين وضخم بشعرٍ هافت ووجه عريض يعبر عن الغرور. له شئ من ملامح الملك الفرنسي في القرن الثامن عشر.
“يبدو أنه من الصعب جدًا رؤيتك يا دكتور أودلن، إنني رجلٌ مشغول جدًا”.
قال الدكتور أودلن: ألن تجلس؟ لم يشيؤ وجهه إلى أن كلام السد موندراجو كان له أثرًا عليه.
جلس الدكتور أودلن على كرسيه في مقعده.
موندراجو لازال واقفًا وبدا غاضبًا أكثر وقال بنبرة حادة: “أعتذر إنه يجب إخبارك بأنني فخامته وزير الشؤون الخارجية”.!
أعاد الدكتور: ألن تجلس؟
السيد موندراجو قام بحركة بدت تشير إلى أنه على وشك أن يدور ويغادر المكان ولكن إذا كانت تلك هي نيته فقد بدا ليغير رأيه وجلس.
فتح الدكتور أودلن كتابًا كبيرًا وأخذ قلمه وكتب دون النظر إلى الآخر.
          كم عمرك؟
          اثنان وأربعين.
          هل أنت متزوج؟
          نعم.
          لكم من الوقت أنت متزوج؟
          ثمانية عشرة سنة.
          هل لديك أطفال؟
          عندي ولدين.
دوّن الدكتور أودلن الحقائق كما أجاب السيد موندراجو على الأسئلة باختصار، وبعدئذٍ اتكئ الدكتور أودلن في مقعده ونظر إليه. لم يتكلم ونظر فقط بعينين زرقاوين شاحبتين لم تتحرك وسئل في النهاية: لماذا جئت لرؤيتي؟
          لقد سمعت عنك. أعتقد أن السيدة كانيون تأتي إليك، هي أخبرتني أنك عملت مقدارا ما من الخير.
لم يجب الدكتور أودلن وبقت عيناه ثابتة على وجه الآخر ولكنها كانت خاليتين تمامًا من التعبير عن المشاعر وتجعلك تعتقد إنه لا يراه. في النهاية قال:
أنا لا أستطيع فعل العجائب! بدون ابتسامة ولكن لاح ظل ابتسامة فوق عينيه.
تكلم السيد موندراجو بطريقة أكثر ودية: “لديك سمعة حسنة. يبدو أن الناس يثقون بك”.
أعاد الدكتور أودلن: “لماذا جئت إليَّ؟”
الآن كان دور السيد موندراجو ليكون هادئًا. بدا وكأنه وجد صعوبة في الإجابة. إنتظر الدكتور أودلن وفي النهاية بدى السيد موندراجو وكأنه يقوم بمحاولة وتكلم:
          “أنا في صحة تامة وفحصت من قبل طبيبي الخاص مؤخرًا. هو يكون السيد أغسطس فيتزربيرت، ربما سمعت عنه. أخبرني بأنني أتمتع بصحة رجل في الثلاثين. أعمل بجد ولا أتعب أبدًا واستمتع بعملي. أنا أدخن قليلًا ولا أشرب كثيرًا. آخذ تمرينًا كافيًا وأعيش حياة مستقرة. أنا رجل عادي ومعافى تمامًا. أنا أتوقع فعلاً أن تعتقدني رجلاً سخيفًا للمجيء إليك”.
رأى الدكتور أودلن إنه يجب أن يساعده ليخبره الحقائق.
          “لا أعرف إن كنت أستطيع فعل أي شئ لمساعدتك، ولكن سأحاول. أأنت حزين؟”
          “عملي الحالي مهم والقرارات التي يجب عليَّ اتخاذها لها أثر على الدولة  وحتى على السلام العالمي. إنه من الضروري لرأيي أن يكون جيدًا وذكائي حاد. أعتقده واجبي لتخليص نفسيي من أي سبب مقلق ربما يتداخل مع ذاكرتي.
لم يزل الدكتور أودلن عينيه عنه أبدًا. رأى شيئًا عظيمًا. رأى في خلق سلوك الرجل المتكبر قلقًا لم يستطع التخلص منه.
          “طلبت منك أن تكون واقعيًا بما فيه الكفاية وتأتي إلى هنا لأنني أعرف بخبرتي أن الشخص يتحدث بصراحة في غرفة الدكتور المهملة أسهل من أن يتحدث في بيئته المعتادة”.
كان واضحا في هذه اللحظة أن السيد موندراجو الذي كان في العادة ذكيًا وواضحًا لم يعرف ما يقول ولكنه اتسم ليريَ الدكتور أنه غير مرتبك، غير أن عيناه أظهرت مشاعره الحقيقية.
          “إنني بالكاد أُكره نفسي لأزعجك لأن الأمر تافه بأكمله، إنني خائف لأنك ستخبرني بأن لا أكون ساذجًا وأضيّيع وقتك الثمين”.
          “حتى الأشياء التي تبدو تافهة يمكن أن تكون لها أهميتها، فيمكن أن تكون علامات لمشاكل معقدة أكثر، ثم إن وقتي بالكامل تحت خدمتك”.
كان صوت الدكتور أودلن منخفضًا وجديًا. بل كان مهدئ بغرابة. قرر السيد موندراجو أخيرًا أن يتكلم بصراحة.
          “الحقيقة إنني حلمت بعض الأحلام المزعجة حديثًا، أعرف أنها حماقة للفت أي انتباه لها ولكن – حسنًا. الحقيقة الصادقة تكمن في أنهم بدؤا يؤثرون على أعصابي”.
          “هل باستطاعتك وصف أي منها”؟
ابتسم السيد موندراجو ولكن الابتسامة التي حاول أن تكون غير مدروسة لم تكن كذلك.
          “إنها تافهة جدًا، وبالكاد أُكره نفسي لأخبرك بهم”.
          “لا تبالي”.
          “حسنًا، الأول كان منذ شهر تقريبًا. حلمت أنني كنت في حفلة في كونيميرا هاوس. كانت حفلة رسمية. الملك والملكة سيكونا هناك. لقد كنت أرتدي وشاحي ونجمتي. دخلت إلى الحجرة حيث يجب أن يزيلوا معطفي. كان هناك رجلاً حقيرًا يدعى جريفثس والذي يكون عضوًا من ويلز في البرلمان، ولأصدقك القول دهشت لرؤيته. فهو وضيع جدًا وبعيد كل البعد عن أن يكون نبيلاً. فقلت لنفسي: حقًا، كان لا يجب على الليدي كونيمرا أن تدعيه إلى بيتها. من ستدعي في المرة المقبلة. اعتقدت أنه نظر إليّ بفضول نوعًا ما، ولكن لم ألحظ أي شئ منه؛ في الحقيقة لم أتفوّه بكلمة وصعدت إلى أعلى. أعتقد أنك لم تذهب إلى هناك؟”.
          “أبدًا”.
          لا، إنه ليس من نوع البيوت التي تذهب إليها. إنه بيت من نوع عادي إلى حد ما ولكن له سلم حجري كبير ورائع، حيث كان آل كونيمرا في القمة يستقبلون ضيوفهم. لمحتني السيدة كونيمرا بنظرة إندهاش وبدأت تضحك عندما صافحتها. فلم أعيرها أي اهتمام كبير لأنها حمقاء وتربت على نحو ردئ وسلوكها ليس بأحسن من سلوك جدتها. يجب أن أقول أن الغرف في منزل كونيمرا كانت رائعة. دخلت خلالها وصافحت عددًا من الناس وبعدها رأيت الوزير الألماني يتحدث مع أحد أمراء النمسا. أردت خصيصًا التحدث معه ولذلك صعدت ومددت يدي. حالما رآني الأمير انفجر ضحكًا بأعلى صوت. ل قد أُهنت بعمق. إزدريته مرارًا ولكنه ضحك أكثر فقط. كنت سأتحدث إليه بحدة في حين كان هناك صمت مفاجئ ومن ثم أدركت أن الملك والملكة قد جاؤوا، فأدرت ظهري للأمير وتقدمت إلى الأمام وعندئذٍ لاحظت فعلًا إنني لا أرتدي سروالًا، لقد كنت في ملابس داخلية قصيرة. لم يكن مدهشًا أن السيدة كونيمرا ضحكت ولا عجب أن الأمير ضحك أضًا. لا أستطع اخبارك ما كانت تلك اللحظة، العار. استيقظت في عرق بارد. أوه ! أنت لا تعلم الراحة التي شعرت بها عندما اكتشفت أنه كان حلمًا فقط”.
قال الدكتور أودلن: “إنه ليس من نوع الأحلام الشائعة جدًا”.
          “ربما لا، ولكن شئ غريب حدث في اليوم التالي. كنت في مجلس العموم عندما مر بمحاذاتي الرجل التافه جريفثس. نظر بحذر إلى رجليّ وبعدئذٍ إلى وجهي وكنت متأكد من أنه غمزني. خطرت في بالي فكرة ساذجة. لقد كان هناك الليلة الماضية ورآني في الحادثة الفظيعة وكان يستمتع بالأضحوكة. غير أنني بالطبع كنت أعرف أن ذلك مستحيل لأنه كان مجرد حلم فقط. رمقته بنظرة باردة ومشيت ولكنه كان يضحك”.
أخرج السيد موندراجو منديله من جيبه ومسح يداه من العرق. لم يقم بأي محاولة لإخفاء قلقه، والدكتور أودلن لم يُزل عينه من عليه.
          “قص عليً حلمًا آخر”.
          لقد كان بعدها بليلة، وكان مضحكًا أكثر من الأول. حلمت أنني كنت في المجلس التشريعي وكنّا نناقش الشؤون الخارجية وكان العالم كله ينتظر المناقشة باهتمام بالغ وليس البلد فقط. لقد قررت الحكومة تغيير سياستها. كانت المناسبة تاريخية وبالطبع كان المجلس مزدحما. كل وزراء الدول الأجنبية كانوا هناك. كان علي أن أُلقي أهم حديث في المساء حيث قمت بتجهيزه بعناية. رجل مثل له أعداء. الكثير من الناس غيورين لأنني حصلت على المنصب في وقت مبكر فعزمت على التحدث برباطة جأش. لقد أثارني بأن أفكر في أن العالم بأكمله كان ينتظر كلماتي. وقفت على قدماي. إن كنت قد دخلت المجلس من قبل فإنك ستعرف كيف يتكلم الأعضاء بعضهم البعض وكيف يقلّبون أوراقهم. عندما بدأت أتحدث كان الهدوء كهدوء القبر. فجأة رأيت ذلك الشيطان الكريه على أحد المقاعد المقابلة، جريفثس عضو ويلز، أخرج لسانه لي. لست أعرف إن كنت قد سمعت بالأغنية المدعوّة “دراجة صنعت لأثنين”. كانت مشهورة جدا منذ سنين طويلة مضت. لأُري جريفثس احتقاري له بدأت أُغنيها. غنّيت المقطع الأول صحيحًا حتى النهاية. كانت هناك لحظة اندهاش وعندما انتهيت صرخوا على المقاعد المقابلة لي: “اسمعوا”. رفعت يدي لأسكتهم وغنيت المقطع الثاني. استمع لي الأعضاء في هدوء تام وشعرت أن الأغنيىة لم تُستقبل جيدًا. كنت غاضبًا لأنني أملك صوتًا جيدًا وعزمت أن عليهم أن يكونوا عادلين. عندما بدأت المقطع الثالث بدء الأعضاء يضحكون، وفي لحظة، انتشر الضحك. اهتز كل من في المجلس، قهقهوا، وأمسكوا بأجنابهم وتدحرجوا على المقاعد. كلهم غلبهم الضحك، إلا الوزراء خلفي مباشرةً. فقد جلسوا كأنهم أصبحوا حجرًا. ألقيت عليهم نظرة، وفجأة فهمت الشئ الفظيع الذي عملته. العالم بالكامل ضحك علي. أدركت أنه يجب عليّ أن أستقيل بشكل مخزي. استيقظت وعرفت إنه كان مجرد حلم”.
سلوك السد موندراجو المتكبر تركه حالمًا وأخبر هذا، ولكن بعد أن انتهى، كان شاحبًا ويرتعش. استرجع هدوئه بجهد وأخرج ضحكة على شفتيه المرتعشتين.
          “كان جنونا بالكامل لأنني لم أتحمل أن أكون مضحكًا. لم أفكر ثانيةً وعند ذهابي إلى المجلس بعد ظهيرة اليوم التالي كنت أشعر بتحسن. جلستُ في مكاني وقرأتُ بعض الأوراق التي تطلبت اهتمامي. لسبب ما صادف أن أنظر لأعلى وأرى جريفثس يتحدث. عنده طريقة كلام ويلزية كريهة ومظهر غير جذاب. لم أقوى على تخيل أن لديه أي شئ يقوله يستحق الاستماع له، وكنت على وشك أن أرجع إلى أوراقي عندما ذكر بيتين من “دراجة صنعت لإثنين”. لم احتمل النظر إليه ورأيت عيناه ثابتتين وكانت هناك ابتسامة صفراء على شفتيه فلم أهتم. من الغرابة أن يقول مقطعين من تلك الأغنية الرهيبة التي عنيتها في حلمي. بدأت أقرأ أوراقي من جدد، ولكني وجدت صعوبة ف التفكر بهم، فقد كنت مرتبكًا قليلًا . أوين جريفثس كان في حلمي الأول ف بيت كونيمرا وأعتقد أنه عرف بعدها كم كنت مضحكًا. هل كانت مجرد صدفة أن يستعمل هذين البيتين من الأغنية؟ سئلت نفس ما إذا كان يحلم نفس لأحلام التي حلمت بها. كانت الفكرة مستحيلة بالطبع، وعزمت على عدم التفكير بها ثانيةً”.
كانت هناك لحظة صمت، ثم نظر الدكتور أودلن إلى السيد موندراجو والسيد موندراجو إلى الدكتور أودلن.
          “أحلام الآخرين ليست مشوقة جدًا. زوجتي معتادة أن تحلم أحيانًا، وكانت دائمًا تقص علي أحلامها في اليوم التالي بكل التفاصيل. لقد دفعتني إلى الجنون تقريبًا”.
ابتسم الدكتور أودلن بتثاقل: “أنا مهتم بأحلامك أنت”.
          “سأقص عليك حلم آخر حلمته منذ أيام قليلة. حلمت بأني دخلت إلى حانة في ليمهاوس. لم أذهب إلى ليمهاوس في حياتي إطلاقًا ولا أعتقد إنني دخلت إلى حانة لأشرب منذ كنت في أوكسفورد، ومع ذلك لا زلت أرى بوضوح الشارع والمكان الذي دخلت إليه. لقد دخلتُ إلى غرفة. كان هناك موقدًا ومقعد جلدي كبير على أحد جانبيه ومقعد طويل على الجانب الآخر. كان هناك طاولة مستديرة بقرب الباب وكرسيين كبيرين بجانبها. كانت ليلة أحد وكان المكان مزدحما ومضيئًا على نحو ساطع، ولكن الدخان كان كثيفًا جدًا حتى إنه وجع عيناي. لقد كنت مهندمًا كرجل فظ بقبعة على رأسي ومنديلًا حول عنقي. تهئ لي أن معظم الناس كانوا مخمورين. أعتقد أنه ملهى نوعا ما. كان هناك راديو وفي مواجهة الموقد إمرأتان ترقصان رقصًا جنونيًا، وكان حشد قليل من الناس يضحكون ويغنون. ذهبت لألقي نظرة فقال لي رجل: “إشرب يا بيل”. كان هناك أكواب مليئة بسائل قاتم على الطاولة، وأعطاني كوبًا فشربته. إحدى المرأتين اللتان كانتا ترقصان تركت الأخرى وأمسكت بكوبي ثم قالت: “ماذا تفعل؟ إنه لي”. فقلت: أوه، إني آسف! هذا السيد قدمه لي”. فقالت حسنًا، لا يهم، تعالى وارقص معنا. قبل أن أرقص كانت قد أمسكت بي وصرنا نرقص سويًا. بعد ذلك وجدت نفسي جالسًا أنا والمرأة نتقاسم مشربًا. يجب أن أخبرك بأن النساء لم يلعبوا أي دور مهم في حياتي. لقد كنت دائمًا مشغولًا عن التفكير بهذه الأشياء. السياسيون لا يجب عليهم أن يتعاملوا كثيرا مع النساء. هذه المرأة كانت مخمورة، ولم تكن جميلة ولا صغيرة. لقد ملئتني اشمئزازًا. فجأة سمعت صوتًا: “هذا أفضل يا صديقي، استمتع بوقتك”. رفعت بصر  فوجدت أوين جريفثس. حاولت أن أقفز من الكرسي ولكن تلك المرأة الفظيعة لم تتركني وقالت: لا تعيره أي اهتمام. فقال: “متع نفسك”. دفعت المرأة جانبا ووقفت وواجهته ثم قلت “أنا لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك”. فقال: “إنني أعرفك تمام المعرفة”. كانت هناك زجاجة واقفة على الطاولة بجانبي. بدون أي كلمة أمسكت بها من عنقها وضربته بها بعنف قدر ما استطعت. كانت عنيفة جدا إلى حد أنها أبقضتني”.
          قال الدكتور أودلن: “حلم من هذا النوع يمكن فهمه بسهولة. إنه الانتقام الذي تتخذه الطبيعة من الناس ذوي الخلق الطيب.
          “القصة جنونية، ولكني لم أقصها عليك بسببها في حد ذاتها، ولكن بسبب ما حدث في اليوم التالي”.  فقد أردت أن أُلقي نظرة على كتاب فدخلت لمكتبة المجلس وأخذت الكتاب وبدأت أقرأ. لم ألاحظ عندما جلست أن جريفثس كان يجلس بالقرب منّي. جاء عضو آخر ثم صعد إليه وقال: “أهلا يا أوين، إنك تبدو مريضًا اليوم”. فأجابه: “عندي صداعٌ فظيع. إنّي أشعر كأن شخصًا ما قد ضربني على رأسي”.
كان وجه السيد موندراجو الآن محاصرًا نفسيًا بالقلق.
          “عرفت بعدها أن الفكرة التي صرفت عنها النظر كانت حقيقية. فقد عرفت أن جريفثس كان يحلم أحلامي، لأنه تذكرهم كما فعلت أنا أيضًا”.
          “من الممكن أيضًا أنها كانت صدفة”.
          “عندما تكلم لم يتكلم إلى صديقه ولكنه تكلم إليّ بحذر ونظر إليّ بغضب.  هل تستطيع أن تقدم لي توضيح لماذا نفس هذا الرجل يدخل في أحلامي؟”.
          “مطلقًا”.
لم تترك عينا الدكتور أودلن وجه السيد موندراجو ورأى أنه كذب. . . أخذ قلمًا في يده ورسم خط أو اثنين على ورقة صغيرة. غالبًا ما نأخذ وقتًا طويلا لجعل الناس يقولون الحقيقة، ومع ذلكفهم على دراية بأنه إذا ما لم يقولوا الحقيقة فإنه لا يستطيع فعل شئ لهم.
          “الحلم الذي وصفته حدث منذ ثلاثة أسابيع مضت، فهل حلمت بعدها؟”.
          “كل ليلة”.
          “وهل هذا الرجل، جريفثس، يدخل فيها كلها؟”.
          “نعم”.
رسم الدكتور أودلن المزيد من الخطوط على الورقة. لقد أراد لسكون الحجرة أن يكون له أثره على السيد موندراجو. رمى السيد موندراجو نفسه على كرسيه وأدار رأسه بعيدًا حتى لا يرى عيون الآخر الجدية.
          “يجب أن تفعل شئ ما لأجلي. لا أستطيع احتمال ذلك. سأجن إن استمر هذا. إنّي خائف من الذهاب للنوم. لم أنم لليلتين أو ثلاثة. لقد سهرتُ أقرأ، وإذا شعرت بالنعاس ارتديتُ معطفي وخرجت أتمشى حتى تعبت ولكن يجب أن أنام. على الرغم من العمل الذي عليّ القيام به، عقلي يجب أن يكون صافيًا. أحتاج للراحة، ولكن النوم لا يجدي. فحالما أنام تبدأ أحلامي وهو دائمًا هناك، ذلك الشطان الخسيس، ضاحكًا عليّ ومستهزأً بي. أنا لا أستحق هذه المعاملة. أُخبرك يادكتور بأنّي لست رجل أحلامي، وإنه ليس من العدل أن تحكم علّ من خلالهم. إسئل أي شخص تريد. إنني رجلٌ مخلص وجيد. لا أحد يستطيع قول شئ على سلوكي الأخلاقي الخاص أو العام. كل ما أريده هو أن أخدم بلدي. عندي المال والجاه ولست تحت رحمة إغراءات الرجال الآخرين، ولذلك فحياتي ميسره أكثر من حياتهم. قمت بواجبي دائمًا. ضحيت بكل شئ لأكون الرجل الذي أكونه. النجاح هدفي وهو في متناول يدي وأنا أفقد شجاعتي. أنا لست ذلك الشخص الضعيف الجبان الذي يراه جريفثس. لقد قصصت عليك ثلاثة من أحلامي، وهي لا تكون شيئًا، وذلك الرجل رآني أفعل أشياء مخجلة جدًا لن أقولها حتى ولو أن حياتي توقفت عليهم، وهو يتذكرهم. إنني بالكاد أستطيع مواجهة الاشمئزاز والسخرية التي أراها في عينيه، بل إنّي أتردد في الكلام لأنني أعرف أن كلماتي لا يمكن أن تبدو له شيئًا سوى توافه مخزية. فقد رآني أفعل أشياء لا يقوى على فعلها شخص يحترم نفسه. أشياء لأجلها يدفع بالناس خاجًا من مجتمع رفاقهم ويرسلون إلى السجن. هو لا يشعر بشئ سوى السخرية منّي وهو بدون شك يتظاهر بإخفائها. أُخبرك بأنه إن لم تفعل شيئًا لمساعدتي فإني ربما أقتل نفسي أو أقتله هو”.
قال الدكتور أودلن في صوتٍ منخفض:
          “من الأفضل أن تقتل نفسك، فنتائج شخص مرافق تكون بشعة”.
          “لن أُشنق بسببه إن كان ذلك ماتقصد. من سيعرف إنني قتلته؟ حلمي ذلك أراني كيف”! لقد قلت لك إنه بعد أن ضربته بالزجاجة على رأسه بيوم شعر بصداع شديد، لقد قال ذلك بنفسه. ذلك يرينا أنه يشعر بجسمه يقظًا ما يحدث لجسمه نائمًا. سوف لن أضربه بزجاجة في المرة القادمة. ليلة ما بينما أكون أحلم سأجد نفسي بسكينًا في يدي أو مسدسًا في جيبي. يجب عليّ ذلك، لأنني متشوّق جدا. عندها سأنتهز فرصتي. سأطلق عليه النار كالكلب في القلب وعندها سأكون حرًا”.
بعض الناس سيعتقد أن السيد موندراجو كان مجنونًا. بعد كل السنين التي كان خلالها الدكتور أودلن يعالج أرواح الناس، عرف كم يكون رفيعًا الخيط الذي يفصل هؤلاء المجانين عن هلاء العقلاء. لقد عرف إن الناس الذي بدو أصحاء وقائمين بواجبات حياتهم العادية لديهم أفكارًا غريبة في عقولهم وعندما ننظر فيهم نستطيع فقط أن نقول إنهم مجانين. لو وضعتهم في مستشفى للمجانين، فلن تكون كل مستشفيات المجانين في العالم واسعة بما فيه الكفاية. لم يكن الرجل مجنونًا لأنه رأى أحلامًا حطمت شجاعته. كانت الحالة فريدة ولكنها ليست كالبقية التي رآها الدكتور أودلن. لقد كان شاكًّا فيما إذا كانت طرق معالجته سيكون لها أي نفع.
قال الدكتور أودلن: “هل طلبت نصيحة أب شخص آخر من أهل مهنتي؟”.
          “السيد أغسطس فقط، أخبرته أنني شكوت من أحلاما مزعجة ليس غير. لقد قال إنني أعمل بجهد بالغ، ونصحني بأن أذهب إلى نزهة على البحر. إنها حماقة، فلا أستطيع أن أغادر وزارة الخاجية الآن بينما الوضع العالمي يتطلب اهتمامي. إنهم لا يستطيعون العمل بدوني، وأنا أعرف ذلك. مستقبلي يالكامل متوقف على سلوكي الحالي. لقد أعطاني شيئًا ليجعلني أنام. لم يكن له أي تأثير. أعطاني دواء كان أسوأ من عدم جدواه. لقد كنت عجوزًا مغفلًا”.
          “هل تستطيع أن تعطيني أي سبب لإستمرار هذا الشخص بالذات الدخول في أحلامك”؟
          “لقد سئلتني هذا السؤال من قبل وأجبت عليه”.
ذلك كان صحيحًا، ولكن الدكتور أودلن لم يقتنع بالاجابة.
          “لماذا يجب على أوين جريفثس إيذائك”؟
          “لا أعرف”.
تحركت عينا اللورد موندراجو قليلا، وكان الدكتور أودلن متأكدا من أنه لم ينطق بالحقيقة.
          “هل قمت بإيذائه في أي وقت مضى”؟
          “أبدًا”.
لم يقم الرد موندراجو بحركة ولكن الدكتور أودلن لديه شعور بأنه حاول أن يكون متواضعًا. رأى الدكتور أودلن أمامه رجلًا متبجحًا ومغرورًا والذي بدا ليعتقد أن الأشياء الموجهة إليه كانت مهيئة ولكنه بدلًا من ذلك جعله يفكر بحيوان خائف في شرك.
مال الدكتور أودلن إلى الأمام وبقوة عينيه أجبر اللورد موندراجو على مواجهتهم.
          “هل أنت متأكد فعلًا”؟
          “متأكد إلى حد بعيد، فأنا وهو نحيا حياة مختلفة، ولا أرغب في التحدث كثيرًا عن ذلك”. ولكن يجب أن أُذكّرك بأنّي أكون وزير الملك وجريفثس شخص غير معروف من حزبٍ آخر. ليس هناك أي رابطة اجتماعية بيننا، وهو يكون من أصل وضيع وليس هو الرجل الذي من المحتمل أن أقابله في أي من المنازل التي أذهب إليها. وسياسيًا نحن بعيدين عن بعض”.
          “لا أستطيع فعل أي شئ لك ما لم تخبرني الحقيقة كاملة”.
أصبح صوت اللورد موندراجو أجشًا.
          “لست معتادًا على الشك في كلمي يا دكتور أودلن، وإن تفعل ذلك فإنّي لن أشغل المزيد من وقتك، لأن ذلك سيكون مضيعة لوقتي فقط، ولو تكرمت أخبر سكرتيري بثمن خدمتك لكي يرسل لك شيكًا”.
لم يظهر وجه الدكتور أودلن أي تغيير ولعلك اعتقدت إنه لم يسمع ما قاله اللورد موندراجو. استمرينظر في عينيه بإطراد وصوته كان رزينًا ومنخفضًا.
          “هل فعلت لهذا الرجل أي شئ قد يعتبره خطأً”؟
تردد اللورد موندراجو ونظر جانبًا وبعد ذلك نظر إلى الوراء ثم أجاب بصوتٍ غاضب:
          “إلا إذا كان شخصًا حقيرًا ودنئ”؟
          “ولكن هذا ما وصفته به تمامًا”.
كان اللورد موندراجو مرهقًا. الدكتور أودلن كان في النهاية سيقول ما عنده، وفي ذلك الحين تكتّم وخفض عينيه ثم بأ يرسم يقلمه. دام الصمت لدقيقتين أو ثلاثة.
          “إني متلهف لأخبرك بكل شئ يمكن أن يكون ذا نفعٍ لي. وإن كنت لم أذكر هذا من قبل، فذلك فقط لأنه كان تافهًا جدًا حتى إنني لم أفهم كيف يمكن أن يكون مرتبطًا بالمسألة. عندما أصبح جريفثس عضوًا، بدأ يسبب الأذى لنفسه في الحال تقريبًا. أباه عاملًا في منجم وقد اشتغل هو بنفسه في منجم عندما كان ولدًا، ولقد كان ناظرًا لمدرسة. لديه النصف التقليدي من المعرفة وخطط عقيمة لشخص فقير الثقافة. له وجهٌ هزيل وكئيب، وهو ليس مهندم. تعتبر ملابسه إهانة للمجلس، فياقته ليست نظيفة، وربطة عنقه لم تُربط على نحو لائق. إنه يبدو كما لو أنه لم يستحم لشهر، ويداه متسخة، لكنه يستطيع الكلام ولديه بعض الأفكار السطحية حول عدد من الموضوعات، ويطلب منه الكلام في المجلس كلما تكون هناك فرصة. لقد اتضح إنه اعتقد إنه بعرف شئًا ما عن الشؤون الخارجية وغالبًا ما يسألني أسئلة تافهة ومزعجة، ونادرًا ما أجبته. لقد كرهت الطريقة التي يتكلم بها ولكن بعض النا قد استمعوا إلى ما كان يتعين عليه قوله. لقد سمعت إن جريفثس قد يصبح وزير خارجية إذا ما وصلت حكومة أخرى إلى السلطة. ذات يوم كنت المتحدث الأخير في المجلس عن الشؤون الخارجية وتحدث جريفثس قبلي لمدة ساعة، فاعتقدتُ أنها فرصة جيدة لأدمره، وفعلت والله يا سيد. لقد مزّقت حججه إربًا، أظهرتُ أخطائه في استنتاجاته وفقره للمعرفة. أحدُّ سلاح في مجلس العموم هو السخرية. ضحكتُ عليه وضحك المجلس معي واهتز ضحكًا. أدهشني ضحكهم، فتكلمت جيدًا. حتى بعض أصدقاء جريفثس لم يحتملوا الضحك عليه. إذا كان هناك رجل جُعل ليبدو ساذجًا، فقد جعلت جريفثس يبدو ساذجًا. جلس مكتئبًا في مقعده وقد رأيتُ وجههُ يبيض وسرعان ما أخفى وجهه بيداه، وعندما جلست كنت قد قتلته. لقد شوّهتُ سمعته إلى الأبد. ليس لديه فرصة أخرى ليصبح وزيرًا للخارجية إلا إذا كانت هناك فرصة للشرطي في الباب. سمعتُ بعدها أباه، عامل المنجم القديم، وأمهُ قد جاؤوا إلى لندن مع أناسًا من قريته لسماع حديثه العجيب”.
          “هكذا دمرت حياته”.
          “نعم، أعتقد ذلك”.
          “ذلك يكون ظلمًا وبهتانًا سببتهُ له”.
          “لقد جلب ذلك لنفسه”.
          “ألم تقلق أبدًا بسبب ذلك”؟
          “أعتقد أنني لو عرفت أن أباه وأمه كانا مستمعين لكنت لطيفًا أكثر”.
لم يكن هناك شئ يضيفه الدكتور أودلن، فبدأ بمعالجة اللورد موندراجو بالطريقة التي اعتبرها الأفضل. حاول أن يجعله ينسى أحلامه حالما يستيقظ، وحاول أن يجعله ينام بعمق لكي لا يحلم. لكن ذلك كان مستحيلًا. في نهاية الساعة أذن بالانصراف للورد موندراجو. منذ ذلك الحين لم يره.
ستة مرات لم يفعل له أي فائدة. استمرت الأحلام المرعبة كل ليلة. كان واضحًا أن حالته العامة كانت تزداد سوءًا بسرعة. لقد كان منهكًا بالتعب ومزاجه معكر. كان غاضبًا لأنه لم يلقى أي فائدة من علاجه، على الرغم من أنه داوم عليه، ليس لأنه بدى أمله الوحيد، ولكن لأن التحدث بصراحة كان راحةً له.
شعر الدكتور أودلن أن هناك طريقة واحدة فقط يمكن للورد موندراجو من خلالها التخلص من مشاكله. كان متأكدًا أن التأخير كان مستحيلًا. بعد زيارات عديدة دبّر الدكتور وضعه في حالة نوم. امتد اللورد موندراجو بسكون تام، عيناه مغلقة وأطرافه مرتخية. ثم تكلم الدكتور أودلن بنفس الصوت الهادئ وبالكلمات التي أعدها:
          “ستذهب إلى أوين جرفثس وتقول له إنك آسف لأنك سببّت له خطأً فادح، وستقول له إنك ستفعل ما بوسعك لتبطل الأذى الذي ألحقته به”.
نزلت الكلمات على اللورد موندراجو كضربة سوط على وجهه وانتفض من نومه وقفز على قدميه. توهّجت عينيه وصب على الدكتور أودلن سيلًا من الكلمات الغاضبة التي لم يسمع مثلها أبدًا. لقد شتمه ولعنه واستعمل لغة بذيئه حتى إن الدكتور أودلن كان مندهشًا لأنه يعلمها.
          “الاعتذار لذلك الويلزي الحقير. من الأفضل لي أن أقتل نفسي”.
          – “أعتقد أنها ستكون الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها استرجاع هدوئك”.
لم يرى الدكتور أودلن في كثير من الأحوال رجلًا في حالة من الغضب المتعذر ضبطه كهذه. إزداد وجهه إحمرارًا وخرجت عيناه من رأسه. راقبه الدكتور أودلن بهدوء، منتظرًا انتهاء العاصفة، وسرعان ما فهم أن اللورد موندراجو قد وهن بسبب المشاكل طول الوقت حيث كان منهكا بالتعب، ثم قال بحدة: “إجلس”.
ارتمى اللورد موندراجو على الكرسنني منهك، وقال:
          “أشعر بأنني منهك، يجب أن أرتاح لدقيقة، وبعدئذٍ سأذهب”.
ربما جلسوا لمدة خمس دقائق بهدوء تام. لقد كان اللورد موندراجو رجلا سمينًا ومتكبر، ولكنه كان أيضًا رجلًا شهمًا ونبيلًا. عندما كسر الصمت، استعاد سيطرته على نفسه.
          “إنّي خائف لأنّني كنت غير مهذبًا معك. إنّي خجول من الأشياء التي قلتها لك، ومعك حق إن رفضت رؤيتي ثانيةً. آمل أن لا ترفض. أشعر بأن زياراتي لك ساعدتني. أعتقد إنك فرصتي الوحيدة”.
          “لا يجب أن تقلق حول ما قلته لي, فلم يكن مهمًا”.
          “ولكن هناك شئ واحد يجب أن لا تسألني إياه، وهوالاعتذار لجريفثس”.
          “فكرتُ كثيرًا في حالتك، ولا أدّعي بأنّي فهمتها، ولكني أؤمن بأن أملك الوحيد هو ما اقترحت، فيجب عليك إصلاح الخطأ الذي ارتكبته”.
          “ضميري صافي وليس خطأي إن دمرتُ حياته. أنا لستُ آسفًا”.
بهذه الكلمات كان اللورد موندراجو قد ترك الدكتور.
قرأ الدكتور أودلن في ملاحظاته ونظر إلى الساعة. كانت السادسة. كان غريبًا أن موندراجو لم يأتي. لقد اتصل سكرتيره ليقول أنه سيأتي في الساعة المعتادة. من الممكن أنه اضطر للبقاء بسبب عمل مهم. أوحت هذه الفكرة للدكتور أودلن بشئ آخر: لم يكن اللورد موندراجو كفؤًا تمامًا بأي حال من الأحوال ليتعامل مع قضايا مهمة في الحكومة.
تساءل الدكتور أودلن هل يجب عليه أن يخبر وكيل وزارة الشؤون الخارجية أنه من الخطر أن يترك له الأشياء من الآن فصاعدًا. ولكن ذلك كان شيئًا يصعب القيام به، ثم من الممكن أنه لن يتلقى شكرًا على ذلك. ومع ذلك اعتقد أن السياسيين سببوا الكثير من البلاء والفوضى في العالم خلال الخمسة والعشرين سنة الماضية، ولا أظن أنه يهم إن كانوا مجانين أو لا.
قرع الدكتور الجرس:
          “إذا جاء اللورد موندراجو الآن أخبريه بأن لدي موعد آخر في السادسة والربع، وبالتالي أنا متأسف لأنني لا أستطيع رؤيته”.
          “جيد جدًا يا سيد”.
          “ألم تصل جريدة المساء بعد”؟
          “سأذهب وأرى”.
وفي لحظة أحضرها الخادم. في الجانب العلوي للصفحة الأولى وبحروف كبيرة كانت الكلمات:
“موت وزير الخاجية”.
صاح الدكتور أودلن: “يا إلهي !” لقد فقد صوابه للحظة. لقد صدم في الواقع. وعلى الرغم من ذلك لم يكن متفاجئًا تمامًا. فقد فكر أحيانًا أن اللورد موندراجو من الممكن أن يقتل نفسه ولم يستطع الشك في أن اللورد موندراجو قد قتل نفسه.
تقول الجريدة أن اللورد موندراجو كان ينتظر في محطة في نفق للسكة الحديدية وعندما وصل القطار شوهد وهو يرمي بنفسه أمامه. أعتقد أن نوبة إغماء قد أصابته. استمرت الجريدة تقول إن اللورد موندراجو كان يشكو لأسابيع من آثار العمل الإضافي، ولكنه شعر بأنه من المستحيل ترك وزارة الخارجية. كان هناك كثيرًا عن حبه لوطنه وخبرته واقتراحات مختلفة لانتخاب وزير خارجية آخر.
قرأ الدكتور أودلن كل هذا. هو لم يحب الدكتور موندراجو. الشعور الكبير الذي سببه له موته هو إنه كان بدون قناعة لأنه لم يكن قادرًا على فعل أي شئ لمساعدته. كان الدكتور أودلن مثبط الهمة كعادته في حين فشله، وكان ممتلئًا بالكره للخبرات التي بواسطتها ادخر لمعيشته. كان يتعامل مع قوى خفية والتي ربما يكون من المستحيل على العقل الإنساني فهمها.
قلّب صفحات الجريدة بيأس وفجأة قلبه خفق وخرج هتافٌ آخر من شفتيه. لقد سقطت عيناه على شئٍ ما في أسفل الصفحة: “موت مفاجئ لعضو في البرلمان”.
السيد أوين جريفثس فاجئه المرض في شارع فليت في ذلك الأصيل، وعندما نقل إلى أقرب مستشفى، وجد أنه قد مات.
أعتقد أن موته كانت نتيجة أسباب طبيعية، ولكن هذا لم يكن أكيدًا.
الدكتور أودلن بالكاد يصدق عينيه. هل كان من الممكن أن اللورد موندراجو في الليلة الماضية وجد في النهاية سلاحًا في حلمه، مسدسًا أو سكينًا، وقتل عدوه؟ وهل كان قتل الحلم بنفس الطريقة كضربة الزجاجة حيث أئّر على بضع ساعات على الرجل المستيقظ؟ أو هل كان غريبًا ومرعبًا أكثر أنه عندما التمس اللورد موندراجو الراحة في الموت، تبعه العدو، بدون رضا لعالم آخر ليواصل هجماته هناك؟ لقد كان غريبًا. والشئ المعقول كان التفكير به كمجرد صدفة.
قرع الدكتور أودلن الجرس:
          “أخبري السيدة ميلتون أنّي متأسف لأنني لا أستطيع رؤيتها هذا المساء، فأنا لست بحالة جيدة”.
لقد كانت حقيقة لأنه كان يرتعش. وبنوع من الاحساس الروحي بدى يرى فراغًا مخيفًا. ابتلعته ليلة الحيوية المظلمة وشعر بخوف غريب وفظيع من شئ ما لم يفهمه.

للكاتب سمرست موجام
ترجمة: أ. فرج محمد صوان


nv-author-image

فرج صوان

استاذ علم اللغة التطبيقي و اللغة الإنجليزية في جامعة طرابلس وعدد من الجامعات الليبية. حصل على الشهادة الجامعية والماجستير من ليبيا، وشهادة في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة سري البريطانية (Surrey)، ودرس برنامج الدكتوراه في جامعة إيسيكس ببريطانيا (Essex). نشر ثمانية كتب والعديد من المقالات والبحوث. مهتم بالملف الليبي والعربي والاسلامي بجميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نقترح عليكم
لـــــم تكونــــــي مخلصــــة سيدتــــــي..................ةلا أريدك أن تعتقدي بأني أكتب لكي…
Cresta Posts Box by CP
إظهار شريط المشاركة
إخفاء شريط المشاركة