تخطى إلى المحتوى

اللغة السياسية والترجمة

مقدمة

يتناول هذا الفصل العلاقة بين اللغة والسياسة والترجمة والتكيف. وسيعرض صعوبات ترجمة النصوص السياسية، وأخيرا، سيناقش بالتفصيل جزءا واحدا من هذه الفئة من الترجمة: ترجمة الخطب السياسية. وسوف يبرز أساسا الجوانب العملية لهذا النوع من الترجمة. ويتألف هذا الفصل من جزأين هما التوصيف العام للغة السياسية، وترجمة النصوص السياسية وتهيئتها.

التوصيف العام للغة السياسية

تنتمي اللغات السياسية والدبلوماسية إلى فئة اللغات الخاصة المستخدمة في العلوم الاجتماعية، وهي بالتالي مرتبطة ارتباطا وثيقا بتاريخ الفكر السياسي. وكلاهما (كلغات تقنية) على اتصال وثيق بالبلاغة، لأنه يمكن اعتبار هذه اللغات الخاصة جوهر المصطلحات للعديد من الأنواع المنطوقة. إن نطاق وغرض اللغة السياسية يختلفان عما هما عليه في اللغة الدبلوماسية. وبينما تُستخدم الأخيرة أساسا كلغة بروتوكولية للمناسبات والاحتفالات الرسمية، فإن الأولى كافية لتحمل كلام الأنواع التاريخية أيضا (تصوير الأحداث التاريخية والشخصيات والظواهر الهامة اجتماعيا في تاريخ المجتمع، وتقديم تمثيلات من الماضي لأحداث حديثة يعترف المعاصرون بأهميتها الاجتماعية). وعلى هذا النحو، فإن اللغة السياسية مناسبة لتسجيل البيانات والحقائق (مثل تسليط الضوء على التغيرات القانونية والإقليمية الهامة، والأحداث السياسية في العالم، والحروب، والمعاهدات، وما إلى ذلك).

وترتبط مصطلحات اللغة السياسية باللغة الخاصة للفلسفة السياسية، حيث أن هذه المصطلحات تساعد على صياغة أكثر الأسئلة شيوعا فيما يتعلق بالعلاقة بين الفرد والمجتمع. ومع ذلك، فإنها ترتبط أيضا بالنظرية السياسية، وذلك لأن المصطلحات السياسية تُستخدم لصياغة النظريات الوصفية للظواهر السياسية (مثل النقد الاجتماعي، ومبادئ العدالة، والقانون، وما إلى ذلك). لم يكن من الممكن وضع نظريات الدولة دون لغة سياسية، ولم يكن بالإمكان خلق مفاهيم مثل ‘الحكومة الصالحة’ أو ‘الشكل الصحيح للحكومة’. كما أن وصف الأفكار السياسية (المذاهب والأيديولوجيات والبرامج السياسية وأهداف السياسة) هو أيضا مجال هام تبرز فيه اللغة السياسية. ووفقا للأفكار السالفة الذكر، يمكن اعتبار المصطلحات السياسية خطابا ثانويا ناشئا عن الخطاب الأساسي، أي أنه خطاب جديد يختلط فيه الخطاب الأساسي بالمصطلحات (Sárosi, 2011). وترتبط اللغة الدبلوماسية ارتباطا قويا بلغة السياسة، وهي أيضا جزء مهم من التواصل بين مختلف الدول. هذه هي في الواقع لغة العلاقات الدولية، وترتبط شخصيتها ارتباطا وثيقا بالوظيفة التي تؤديها على الساحة الدولية. وهكذا، فإن اللغة الدبلوماسية مرتبطة ارتباطا وثيقا بطبيعة أهم المهام الدبلوماسية.

إن التمثيلات السياسية لمختلف البلدان تتطلب عموما استخدام لغتين أو أكثر، وبالتالي فإن اللغات المستخدمة في الساحة الدبلوماسية هي على اتصال دائم، مما يؤسس، بالضرورة، نوعا من اللغة الدبلوماسية المشتركة. وتضم هذه المشاهد الدبلوماسية العلاقات الثنائية، والعلاقات مع البلدان الثالثة والمنظمات الدولية، والمنتديات الدولية، والأحداث غير السياسية ذات التأثير الدولي.

وفيما يتعلق بالقضايا السياسية، هناك علاقة مستمرة بين الوفد الدبلوماسي والسلطات المختصة في الدولة المستقبلة. وقد تتخذ لغة هذه العلاقات أيضا أشكالا محددة، حيث أن أعضاء الوفد الدبلوماسي لا يتحدثون في كثير من الحالات بلغة البلد المضيف بمستوى مناسب. وفي مثل هذه الحالات، يتم استخدام لغة ثالثة في الاتصال، أو يتم استخدام مترجم، حيث يمثل الأخير لغة خاصة للاتصال الدبلوماسي. وتتطلب الاجتماعات بين القيادة العليا أو وفد سياسي من البلد الزائر ووفد البلد المضيف (فضلا عن المؤتمرات الدبلوماسية الدولية وجميع الأحداث المماثلة الأخرى) استخدام لغة دبلوماسية خاصة، وكذلك إعداد الاتفاقات الدولية، والمفاوضات، وإبرام المعاهدات. وتعتمد اللغة المتخصصة في السياسة، ومن ثم الدبلوماسية في العديد من النواحي على الإجراءات والعادات الدولية والحلول المتفق عليها ثنائيا.

النصوص السياسية كتعبيرات محددة للغة السياسية

 إذا أردنا أن نحدد طبيعة مصطلحات اللغة السياسية، فسيكون من المفيد دراسة ما يشكل جوهر النصوص السياسية. ويمكن أن يكون نطاق النص السياسي الإقناع، المنطق، الخداع أو حتى الصخب، وكلها تتطلب استخدام لغة معينة. الغرض من الخطاب الاقناعي هو إقناع الجمهور بالموافقة على فكرة أو رأي يقوله المتكلم. ويمكن للمرء أن ينتج خطابا مقنعا فعالا إذا كان يبني الحجج كحل لمشكلة. الوظيفة الأولى للمتحدث أو الكاتب هي إقناع الجمهور بأن هناك مشكلة معينة تهمهم، ومن ثم يجب أن يقتنعوا من النص بأن المتكلم أو الكاتب لديه الحل لمعالجة تلك المشكلة. يمكن أن تكون الخطابات المقنعة في أشكال عديدة، مثل عروض المبيعات والمناظرات والإجراءات السياسية. قد تستخدم الخطابات المقنعة المغريات العاطفية أو المنطقية. وتؤثر عوامل مثل لغة الجسد، واستعداد الجمهور، والبيئة التي يتم فيها التعبير عن الكلام، على نجاح الخطاب الاقناعي.

ويمكن اعتبار النصوص الاقناعية، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة، عملية تهدف إلى تغيير اتجاه الشخص (أو المجموعة) أو سلوكه. هذه عملية طويلة. فبعد أن يكون الشخص مقتنعا بشأن قضية ما، يكون من الصعب جدا تغيير رأيه. وهذا يتطلب الكثير من الطاقة. وبنقص هذه الطاقة، سوف يفشل الإقناع وبدلا من الإقناع سوف نتحدث فقط عن التكيف مع التوقعات، أو ربما القبول السطحي للحجة، التي يمكن اعتبارها المرحلة الأولية للإقناع (Cialdini 2001).

يتطلب الإقناع الناجح فن الجدال. والحجة السياسية هي حجة منطقية تطبق على السياسة. وتستخدم الحجج السياسية من قبل الأكاديميين، ووسائل الإعلام، والمرشحين للمناصب السياسية والمسؤولين الحكوميين. ويمكن أيضا أن يستخدمها المواطنون في التفاعلات اليومية للتعليق على الأحداث السياسية وفهمها. غالبا ما تكون الحجج السياسية دائرية، وتكرر نفس الحقائق كمقدمات منطقية تحت مظاهر ربما مختلفة قليلا. وينبغي التمييز بين الجدل والدعاية، حيث أن الدعاية ليس لديها بنية أو عقلانية إلا قليلا أو معدومة. وهناك نوع محدد من الحجج، وهي الحجة القائمة على الاحتمال، والتي تعتمد على الملاحظة أو تجربة أو نتيجة يعتبرها الأغلبية مقبولة وحقيقية. ربما أهم الحجج هي تلك التي تعتمد على الأدلة كالحقائق، البيانات الإحصائية، نتائج البحوث، تقارير موجزة، أو الإشارة إلى هيبة (Zemplén – Kutrovátz 2012).

إذا كان الإقناع على أساس الحجة لا يحقق النجاح، فعندئذ سيتبع ذلك الخداع، والتضليل والصخب. وهذا يعني أنه من أجل تحقيق هدفهم، يقدم المتكلمون بيانات كاذبة، ويظهرون إحصاءات وهمية ويقدمون الوعود التي لا يمكن تحقيقها نتيجة ظروف موضوعية. السياسة مشبعة بالخطب، حيث يتحدث المواطنين والسياسيين، ويلقي الصحفيون والمحللون السياسيون الخطب، وأخيرا وليس آخرا، يتحدث علماء السياسة أيضا (Cacioppo and Petty 1986). وفيما يتعلق بالنصوص السياسية، يمكن القول إن القراءات اللاحقة تخلق تفسيرات جديدة تؤدي إلى أن يكتسب النص نفسه معنى جديدا وأهمية جديدة. ومع ذلك يبقى السؤال الأهم، ألا وهو: ما معنى النص؟ وماذا يوصل لنا؟ للرد على هذا السؤال بشكل فعال، يجب أن يكون لدى المرء معرفة تامة بالمصطلحات السياسية.

يظهر الخطاب السياسي كلغة مهنية. ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى الكلام السياسي بمعزل عن الخطابات السياسية المختلفة على الرغم من أنها مرتبطة بقوة. تظهر المشاكل المتعلقة بالجوانب اللغوية للسياسة لحظة صياغة فكرة أولية حول دور اللغة في السياسة، وكذلك عندما تصبح اللغة قضية ذات صلة من منظور المجالات السياسية. المصطلحات السياسية لها الوظائف التالية:

  • وظيفة تعبيرية، بمعنى أنها تعبر عن أهداف متجذرة في المجال الحقيقي للسياسة.
  • وظيفة موضوعية، وهذا يعني أن لها سببا موضوعيا للتأثير على تفكير الناس، ومشاعرهم، وبالتالي أفعالهم.
  • وظيفة رمزية، بمعنى أن الأفكار والمشاعر تعبر عنها الرموز السياسية.

ووفقا للنهج الرمزي، إذا كان شخص ما يتحدث عن السياسة الرمزية، فإنه يشير إلى مجال خاص من السياسة يعتبر أصيل ومنفصل عن القضايا السياسية الحقيقية والفعلية. وفي الاستخدام المعتاد للغة، فإن السياسة الرمزية تعني خداعا علنيا ​​أو تصرفا بديلا يُستخدم للتقليل من الواقع السياسي الفعلي. وبهذا المعنى تعتبر السياسة الرمزية بديلا للسياسة. تختلف السياسة الرمزية عن السياسة الجوهرية. وكسياسة للرموز (المصطلحات والشعارات والشارات واللافتات والصور والإيماءات، والأعمال الطقسية، والتدريج السياسي)، فإن السياسة الرمزية تتطور في مجال دلالي. وعلى النقيض من ذلك، فإن السياسة الجوهرية تتألف من تعاقب قابل للتعديل في القرارات السياسية (مثل التشريع، والعقود، والضرائب، وما إلى ذلك). ويمكن أن تكون السياسة الرمزية والسياسة الجوهرية مرتبطتان ببعضهما. فمن ناحية، يمكن للسياسة الرمزية أن يكون لها تأثير على السياسة الجوهرية، في حين يمكن إيصال السياسة الجوهرية و تنفيذها أو تفاديها بواسطة السياسة الرمزية (Sarcinelli, 1998). وإذا حاولنا تعريف المصطلحات السياسية من منظور السياسة اللغوية، فإننا نلاحظ أن هذا المفهوم للغة يوجه الانتباه إلى مفهوم القتال (Szabó 2003). الافتراضات:

  • السياسة هي في المقام الأول ساحة لغوية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الصراعات السياسية التي تجري في الفضاء العام الذي حددته وسائل الإعلام.
    • الفوائد التي يمكن الحصول عليها في هذا النضال (على سبيل المثال، ربط المفاهيم الإيجابية بالمجموعة السياسية الخاصة بالمرء والمفاهيم السلبية للمعارضين) يمكن تحويلها مباشرة إلى مكاسب سياسية.
    • سيكون الفضاء السياسي الذي تم تشكيله مسبقا الأساس للمزيد من المعارك السياسية والذي سيتم فيه تفضيل الفائزين بالنضال السياسي الرمزي.

وعند فهمها من وجهة نظر البلاغة، فإن تحليل التراكيب، والعبارات المجازية، والرموز والاستعارات المستخدمة في الخطب السياسية تصبح من الأمور الأساسية. ويعود ذلك إلى أنه، في هذه الخطب السياسية، يتم التعبير عن الأهداف والوسائل السياسية للمتكلم (وذلك أساسا بقصد التلاعب)، ولأن الهدف النهائي للخطاب السياسي هو بالطبع بلاغي، أي التلاعب.

ويصل تحليل الخطب السياسية، من منظور نظرية الاتصالات، إلى أهمية خاصة موازية لإضفاء الطابع المهني على السياسة. نهتم في التواصل السياسي على نطاق واسع بالعلاقة بين السياسة والمواطنين، وأساليب الاتصال التي تربط هذه المجموعات ببعضها البعض. وتصف هذه النظرية اللغة السياسية كفئة من السلوك البشري مساوية للأفعال السياسية الأخرى التي ربما أصبحت (بسبب تطور تكنولوجيات الاتصال ووسائط الإعلام) أهم شكل من أشكال العمل السياسي. إن استخدام اللغة له طبيعة مفيدة تماما، واللغة هي نفسها الأداة ومادة الأفعال. والسؤال الأساسي هو كيف يمكن تعزيز الإجراءات السياسية الأخرى من خلال فعالية الاتصالات. مؤخرا، أصبحت الفكرة سائدة بأن جميع الأفعال السياسية مثيرة للاهتمام لأنها تلعب دورا في التواصل. ونتيجة لذلك، من الواضح أن تحليل الاتصالات السياسية لا يشير فقط إلى الأدوات اللغوية أو المسائل المتعلقة بالمحتوى بل بالاستراتيجيات المستخدمة لتحقيق مركز السلطة.

يحلل مؤيدو النهج الخطابي اللغة السياسية لأنهم من خلال هذا يرغبون في فهم كيف يشكل الفاعلون السياسيون العالم من حولهم. والتركيز هنا ليس على الرجل الذي يتصرف بهدف الأدوات اللغوية، ولكن على التفسيرات بوساطة لغوية والتقارير. السياسة هي عملية خطابية تتألف من جهات فاعلة في النظام السياسي تتناول المشاكل والقضايا التي يتم معالجتها في نظم فرعية أخرى مثل الاقتصاد، وتؤطرها في شكل مشكلة سياسية. وبفعل ذلك، ينطلق جدل سياسي تُناقش فيه المشكلة السياسية، أو بشكل أكثر دقة، تناقش فيه الحلول للمشكلة السياسية. إن أولئك الذين يهتمون بالسياسة يعاملون الحقيقة بنفس الطريقة التي يعاملون بها الرموز. أما الناس عموما فيعاملون الأشياء الحقيقية بنفس الطريقة التي يعاملون بها مفاهيم الإحالة التي سبق تفسيرها أو التعليق عليها بطريقة أو بأخرى (Szabó, 2003).

ترجمة النصوص السياسية وتهيئتها

لقد اعتبر العلماء أنه ليس سوى مسألة الانضباط والانتباه والأسلوب التي تسمح للمرء بأن يبحر في متاهة الكلمات ويصل إلى الفهم الكامل. ولا يمكن أن يكون هذا صحيحا إلا إذا اعتبرنا اللغة السياسية نظاما مفتوحا للتحليل الاستنتاجي والتعاريف الملموسة وليس مظهرا بسيطا لاستخدام اللغة الطبيعية (Szabó, 2001: 1). النظام السياسي، تماما مثل اللغة، يخضع باستمرار لعملية تغيير لأنه كيان حي، وهذا هو السبب في أن حالة كل من اللغة والنظام السياسي لحظيان. هذا هو السبب في أن أيا منها ليس قابلا للطرق الوصفية. لا يمكن اعتبار اللغة السياسية لغة تقنية صغيرة، على الرغم من أنها تعرض بعض ملامح المصطلحات. فالتعبيرات السياسية لا تنطوي على قيمة جوهرية، ولا يمكن تعريفها إلا فيما يتعلق بالخطاب الذي هي عنصر منه. يؤكد هربرت ليونيل أدولفوس هارت (Hart, 2000) في عمله ‘التعريف والنظرية في العلوم القانونية’ (Definition and Theory in Legal Sciences) على ما يلي:

[…] الجهود المبذولة لتعريف مثل هذه التعبيرات مثل سلطة الدولة، والنظام الانتخابي أو نظام الضوابط والموازين تبين لنا أن هذه الكلمات ليس لها روابط حقيقية بالعالم المفاهيمي، كما تفعل الكلمات الشائعة … ليس هناك شيء في العالم الحقيقي من شأنه أن يتناسب مع هذه التعبيرات السياسية من الناحية النظرية، وليس هناك مصطلح أو كلمة مكافئة في اللغة اليومية.

لا يمكن تحليل الكلمات السياسية بمعزل عن غيرها، ويجب على المرء عند تحليلها أن يأخذ بعين الاعتبار الجملة بأكملها وحتى الخطاب بأكمله. وإذا أردنا تحليلها، فيجب علينا أن نفعل ذلك في سياقها، ويجب علينا ترتيبها في عبارات. فالوظيفة الأساسية لهذه الكلمات ليست وصف شيء ما بل لإقامة علاقة. وتُبرز هذه الحقيقة الفرق بين هذه الكلمات وبقية المعجم (Hart 2000: 104).

يمكننا من وجهة النظر العملية أن نذكر أن السياسي ينحرف عن اللغة العادية التي يستخدمها الناس العاديون ويجبرهم على مجال لغوي محدد. فالأهمية السياسية لمصطلح معين لا تظهر إلا في هذه اللغة المحددة التي تدمر الاستخدام اليومي للغة البشرية. فاللغة السياسية واللغة المشتركة لا تختلفان كما تفعل اللغات الأجنبية. وقد يسأل المرء لماذا تختلف اللغة السياسية عن اللغة الشائعة. السبب الرئيسي لهذا النوع من الاختلاف هو أن القيمة الدلالية للكلمات السياسية أكثر ثراء من الكلمات العادية. فعلى سبيل المثال، يحكم على الرجال بالإعدام باسم القانون، وتغير الممتلكات أصحابها استنادا إلى كلمات العقد (Simpson, 2000: 144). إن أهم شيء في حالة التعبيرات السياسية الأدائية هو تأثير الجمل على الناس. هذه الآثار تنشأ من خلال مظهر من مظاهر اللغة. وتعتبر الآثار السياسية آثارا ملموسة (Olivecrona 2000: 174).

فاللغة السياسية تدفعنا إلى إعادة بناء تلك الأفكار التي يتم تسويتها في النص السياسي من خلال التفسير. إن هذه الإعادة عملية عقلية نقوم من خلالها بإعادة بناء النص وفقا لمعرفتنا من أجل الحصول على فهم أفضل.

اللغة السياسية والترجمة

ومن سمات النظام السياسي أنه يتألف من نصوص مترابطة بقوة، لذلك، عند خلق نص جديد (مثل الترجمات) يجب أن نولي انتباهنا لترابطه مع بقية النصوص السياسية. وهذا التماسك مكفول بمصطلحات سياسية (طرف في العقد، عقوبة الإعدام، وما إلى ذلك)، وعناصر غير مصطلحية مثل، فيما يتعلق بـ، فسخ العقد، علاوة على ذلك، الخ. ويسهم تقليد النص السياسي أيضا في هذا الاتساق، ولهذا السبب قد يجد غير القانونيين نصا سياسيا يستحيل فهمه. ويرجع ذلك إلى أن النظام القضائي هو نظام منطقي تحاول نصوصه تفادي الأوصاف المعقدة والثقيلة التي تفوق فهم الشخص العادي، الأمر الذي يتطلب مزيدا من الدراسة والتحليل لكي يتم فهمه. قد يفسر المجال المحدد لهذه النصوص استخدام العبارات الطويلة التي تمثل مهمة صعبة للمترجم الذي ينبغي عليه التعامل معها. ولفهم هذه النصوص وترجمتها يجب على المرء تفسيرها.

قد يواجه المرء وضعا يكون فيه نص اللغة المصدر (قانون أو عقد، صك تأسيس أو نظام أساسي، وما إلى ذلك) مفرطا في التعقيد وغير واضح. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة تتناقض مع تلك التي تشير إلى الطابع المنطقي للنصوص السياسية، إلا أنه يمكن عمليا ملاحظة أن المترجمين غالبا ما يواجهون مثل هذه المواقف نتيجة لعدم الكفاءة أو عدم معرفة أولئك الذين كتبوا النصوص. سيصبح المترجم مفسرا فقط عندما يواجه مشاكل تتعلق بفعل الترجمة، وليس بمحتوى الورقة. والمشكلة أكثر أهمية إذا كان عدم الوضوح ناجما عن الاختلافات بين النظامين اللغويين. يجب على المترجم خلال عملية الترجمة رفض الإبداع ويقبل بدلا من ذلك اللغة المتخصصة التقليدية. ونعني هنا باللغة المتخصصة مصطلحات المجال التي تعكس هذه الشريحة من الواقع الذي هو حقل البحث لدائرة معينة من المتخصصين (Kurtán, 2003: 50).

وليس من السهل على المترجم أن يتعامل مع المصطلحات الخاصة لأنه قد يكون لديه تفضيلات لغوية أخرى، أو قد لا يقبل صيغ التعابير اللغوية القائمة (calque-forms)[1]. وقد يكون السبب الآخر للصعوبة حقيقة عدم توافر مصادر التوثيق لهم (Várnai 2006: 48). ومن المهم في حالة الترجمات السياسية أن يستخدم المترجم المصطلحات الموجودة في لغة المصدر، لأن هذا يصبح في الواقع مدونة للاتصال السياسي وأداة للنصوص المتماسكة. وإذا واجه المترجمون مفاهيم جديدة أثناء عملية الترجمة، يجب أن يأخذوا بعين الاعتبار عدة جوانب سياسية ولغوية وثقافية من أجل الوصول إلى المكافئ التام أو على الأقل المعادل الأكثر قبولا. يمكن للمرء في عملية الترجمة السياسية أن يجد في الدراسة المقارنة طريقة مفيدة. ويمكن استخدامها لإجراء دراسة مقارنة لنظامي اللغتين. وهذه عملية فكرية من شأنها إثراء النظام المرجعي للمترجم من خلال دراسة نظام مرجعي مختلف. وثمة هدف آخر لهذا النوع من الدراسة، وهو إجراء مقارنة بين النظامين السياسيين وتحديد السمات المشتركة والخصائص المختلفة.

دعونا نحلل كيف يمكن للدراسة المقارنة أن تساعد في المقارنة بين المعرفة اللغوية والمواضيعية، وكيف يمكن لهذه الطريقة بناء جسر بين ثقافتين وعالمين مختلفين. لن يكون من الممكن تفسير وإعادة كتابة الخطاب في شكل خطاب مكافئ مكتوب بلغة أخرى إلا إذا قام المترجم بتحليل العلامات اللغوية وفقا للجوانب غير اللغوية. ولإنتاج الترجمة، يحتاج المترجم إلى حد أدنى من المعرفة بالنظامين السياسيين. إن استخدام طرق الدراسة السياسية المقارنة أمر مهم ليس فقط لفهم كيفية عمل النظام السياسي المعني، ولكن أيضا لوضع النص بشكله الصحيح في الثقافة المستقبلة. إن المقارنة طريقة نظرية تساعد على فهم قوة وحدود الأفعال السياسية في النظامين السياسيين المختلفين، كما تشير إلى الجوانب المتقاربة والمتباينة للنظامين السياسيين. وأثناء عملية الدراسة المقارنة يكتسب المترجم المعرفة المواضيعية التي تصبح نشطة ومفيدة فقط في لحظة الترجمة نفسها. وفيما يتعلق بالترجمات السياسية، فإن المسألة الأكثر صعوبة هي ترجمة الواقع السياسي[2].

وباعتباره أسلوب ترجمة، يمكن تعريف التكيّف على أنه طريقة تقنية وموضوعية. التعريف الأكثر شهرة هو تعريف فيناي وداربلنيت (Vinay and Darbelnet, 1958)، الذين يدرجون التكيف كإجراء ترجمة منفصل، حيث يبينون أن التكيف هو إجراء يمكن استخدامه كلما كان السياق المشار إليه في النص الأصلي غير موجود في ثقافة النص الهدف، مما يستدعي شكلا من أشكال إعادة الخلق. ويعتبر هذا التعريف المقبول على نطاق واسع التكيف كإجراء يستخدم لتحقيق تكافؤ المواقف حيثما يتم مواجهة أوجه عدم التطابق الثقافي.

وقد لاحظت يوجين نيدا (Nida, 1964) أن اللغة جزء من الثقافة، بل إنها في الواقع مجموعة من العادات الأكثر تعقيدا التي تظهرها أي ثقافة. وتعكس اللغة الثقافة، وتوفر الوصول إلى الثقافة، وتشكل في كثير من النواحي نموذجا للثقافة. ولترجمة عناصر محددة للثقافة ولعكس نموذج معين للثقافة، يمكن للمترجمين استخدام التقنيات التالية:

  • الحذف: إلغاء أو تخفيض جزء من النص.
    • التوسع: تقديم معلومات صريحة متضمنة في النص الأصلي، سواء في المتن الرئيسي أو في الحواشي أو في مسرد كلمات.
    • الغرابة: استبدال التعبيرات العامية، اللغة المحلية أو اللهجة، كلمات هراء، وما إلى ذلك في النص الأصلي بمعادلات مقاربة لها في اللغة الهدف (التي تميز أحيانا بالخط المائل أو بخط تحتها).
    • التحديث: الاستعاضة عن المعلومات القديمة أو الغامضة بالمكافئات الحديثة.
    • التكافؤ الظرفي: إدراج سياق معروف أكثر من السياق المستخدم في الأصل.
    • الخلق: استبدال أكثر شمولا للنص الأصلي بنص يحافظ فقط على الرسالة الأساسية والأفكار والوظائف الموجودة في النص الأصلي.

الاستنتاج

يمكن دراسة ترجمة الخطابات السياسية من منظور لغوي، ولكن يمكن النظر إليها أيضا من منظور أوسع، استنادا إلى نظرية الخطاب السياسي وعلى البحوث المتعلقة بدراسة اللغات الخاصة.

 السمة البارزة في أسلوب الخطب السياسية هي الجمل الطويلة جدا. يرجع هذا الميل للجمل الطويلة إلى الحاجة لوضع كافة المعلومات حول موضوع معين في وحدة كاملة واحدة، وذلك للحد من الغموض الذي قد ينشأ إذا ما وضعت في جمل مختلفة (على سبيل المثال، هناك تعاطف عميق وحسن نية في ليبيا،  ولا أشك هنا  أيضا، أنه تجاه جميع شعوب العالم العربي، وعزم على المثابرة عبر العديد من الاختلافات والرفض لإقامة صداقة دائمة). دائما ما يتم صياغة الخطاب السياسي بطريقة شخصية جدا وذلك لمخاطبة الجمهور الهدف المختار (كلكم في هذا البلد مطلعين جيدا حول الشرق الأقصى، والاصدقاء المخلصين من الصين، وأنني لست بحاجة لأن أسهب حول الوضع هناك. ومن ناحية أخرى، أرفض فكرة أن حربا جديدة هي أمر لا مفر منه؛ ومع ذلك فهي لازالت وشيكة).

الميزة الأخرى هي اللغة المرنة أو الغامضة. يحاول السياسيون أن يكونوا غير دقيقين قدر الإمكان ويستخدمون لغة عامة وغامضة ومبهمة. تعتبر اللغة المجردة والاستعارية هي المعيار في الخطب السياسية التي تتم كتابتها بشكل مثالي ليكون لها تأثير كبير على الجمهور الفعلي (ما يشتهون هو ثمار الحرب والتوسع الغير محدود لقوتهم ومبادئهم).

وبسبب هذه الميزات يصعب ترجمة الخطب السياسية، حيث يمكن أحيانا إدراجها في فئة النصوص الغير قابلة للترجمة. فالسياسيون لا يلقون كلماتهم ليتم ترجمتها لجماهير أجنبية. وبالتالي لا يمكن للمترجمين في بعض الحالات انتاج نصوص موازية متطابقة في المعنى، أو بنفس أثرها السياسي والتاريخي. ولذلك فإن المهمة الرئيسية للمترجم هي خلق نص من شأنه أن يرسل جوهر الرسالة المضمنة في النص الأصلي. وللقيام بذلك، يجب أن يكون المترجم قادرا على “فهم ليس فقط ما تعنيه الكلمات وما تعنيه الجمل، ولكن أيضا الأثر السياسي أو التاريخي الذي يمكن أن تحمله. كما يجب عليهم أيضا أن يعرفوا كيفية تحقيق ذلك التأثير المعين في اللغة الأخرى” (Quentel, 2006: 3). يجب أن يكون المترجمين قادرين على استخدام اللغة بشكل فعال للتعبير عن أهم المفاهيم السياسية من أجل تحقيق التأثير المنشود. ويجب أن يكونوا على دراية بالقواعد والأساليب التقليدية للخطابات السياسية (البلاغة، الأسلوبية).

ومع ذلك، هناك العديد من الاستراتيجيات لترجمة الغير قابل للترجمة مثل التوضيح أو استخدام الحواشي، ولكن في كل هذه الحالات هناك فقدان للمعنى الأصلي، والذي يمكن تعويضه في أجزاء أخرى من النص أو الخطاب. ووفقا لغادامر (Gadamer) “لا يمكن لأي ترجمة أن تحل محل الأصل […] إن مهمة المترجم ليست أبدا نسخ ما يقال، ولكن وضع نفسه في اتجاه ما يقال (أي بمعناها) من أجل نقل ما يجب قوله في اتجاه كلامه الخاص “(نقلا عن Newmark, 1988: 79).


[1] ترجمة كالك أو ترجمة عبارة مستعارة من لغة أخرى حرفيا كلمة بكلمة. غالبا ما نراها في المجالات المتخصصة أو الدولية مثل ضمان الجودة.

[2] العناصر المادية المحددة التي لا توجد إلا في نظام سياسي معين (على أساس القياس مع العناصر الخاصة بالثقافة).

nv-author-image

فرج صوان

استاذ علم اللغة التطبيقي و اللغة الإنجليزية في جامعة طرابلس وعدد من الجامعات الليبية. حصل على الشهادة الجامعية والماجستير من ليبيا، وشهادة في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة سري البريطانية (Surrey)، ودرس برنامج الدكتوراه في جامعة إيسيكس ببريطانيا (Essex). نشر ثمانية كتب والعديد من المقالات والبحوث. مهتم بالملف الليبي والعربي والاسلامي بجميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نقترح عليكم
ملخص يبين هذا القسم نمو علم اللغة الحاسوبي ودوافع وجوده،…
Cresta Posts Box by CP
إظهار شريط المشاركة
إخفاء شريط المشاركة