تخطى إلى المحتوى

الترجمة في البحث العلمي

مقدمة

جمع البيانات بلغة معينة وعرض النتائج بأخرى يتطلب من الباحثين اتخاذ قرارات متعلقة بالترجمة ولها تأثير مباشر على صلاحية البحوث وكتابة تقاريرها.

تتضمن العوامل التي تؤثر على جودة الترجمة في البحوث الاجتماعية ما يلي: الكفاءة اللغوية للمترجم، معرفة المترجم بثقافة الناس قيد الدراسة، السيرة الذاتية للقائمين بالترجمة؛ والظروف التي تتم فيها الترجمة.

هناك حاجة لأن يكون الباحثين الاجتماعيين الذين يقومون بترجمة البيانات من لغة إلى أخرى واضحين في وصف خياراتهم وقراراتهم وإجراءات الترجمة والموارد التي يستخدمونها.

لقد كان جمع البيانات يتم بشكل حصري تقريبا من قبل علماء الأنثروبولوجيا، ولكن جمع البيانات بلغة معينة وتقديم النتائج بلغة أخرى أصبح الآن شائعًا بشكل متزايد بين الباحثين الاجتماعيين. وكلما ازداد تنقل الطلبة والموظفين، فإن عددا كبيرا من الأطروحات والرسائل العلمية ومشاريع الأبحاث الممولة أصبح يهتم بالدراسات التي تنطوي على النقل بين اللغات، بل أحيانا حتى منذ بداية الخطوات الأولى للجهود البحثية. ومع ازدياد الحاجة للفهم المتبادل على النطاق الدولي، أصبح الكثير والمزيد من المنظمات والأفراد يبحثون عن معلومات قابلة للمقارنة عبر الحدود الوطنية والثقافية باستخدام أدوات البحث التي تم إعدادها بلغة وثقافة معينة للاستخدام في لغات أخرى.

يمكن للنقل بين اللغات أن يأخذ أشكالا مختلفة. على سبيل المثال (باعتبار أن اللغة الإنجليزية هي اللغة التي سيتم كتابة تقرير البحث بها): قد يقوم باحث ناطق باللغة الإنجليزية بإجراء مقابلة بلغة أخرى غير اللغة الإنجليزية. وتتم المقابلة بين الباحث والأشخاص الذين تتم مقابلتهم بلغتهم الأساسية غير الإنجليزية؛ ويكون الباحث والمشاركين “يتكلمون اللغتين بطلاقة، ويبدلون بين اللغتين خلال المقابلة” (Rossman and Rallis, 1998:161). في حالات تقييم عناصر اختبارات البحوث الدولية أو العابرة للثقافات، يتم ترجمة الاستبيانات أو جداول المقابلات من الإنجليزية إلى لغات البلدان المختلفة والعكس بالعكس.

وعلى الرغم من أن كل الدراسات التي تنطوي على لغات مختلفة لا تعتمد بالتساوي على دقة البيانات اللغوية (على سبيل المثال، في الدراسات التي هي في الغالب رصدية)، إلا أن الباحثون في حاجة إلى إدراك أن عملية الترجمة عادة ما تتطلب الوقت والجهد من جانبهم ويمكن أن تُبرز لهم أنواع مختلفة من المشاكل التي قد لا يمكن التغلب على بعضها تماما (Phillips, 1960; Lewin, 1990; Broadfoot and Osborn, 1993; Ercikan, 1998). والأهم من ذلك، يحتاج الباحثون أن يأخذوا في الاعتبار أن القرارات المتعلقة بالترجمة لها تأثير مباشر على صلاحية البحوث وتقاريرها.

العوامل التي تؤثر على جودة الترجمة

تعتمد جودة الترجمة على عدد من العوامل، بعضها، كما يقول فيليبس (Phillips, 1960:290) قد يكون خارج عن سيطرة الباحث. ففي تلك الحالات التي يكون فيها الباحث والمترجم هما نفس الشخص تتأثر جودة الترجمة بعوامل مثل: السيرة الذاتية للباحث المترجم، وعلم الباحث بلغة وثقافة الناس قيد الدراسة (Vulliamy, 1990:166)، وطلاقة الباحث في لغة كتابة التقرير. عندما لا يكون الباحث والمترجم هما نفس الشخص، فإن جودة الترجمة تتأثر أساسا بثلاثة عوامل وهي: الكفاءة والسيرة الذاتية وما يسميه تيمبل (Temple, 1997:610) ‘الظروف المادية للمترجم”، أو وضع المترجم بالنسبة للباحث.

الأبعاد المختلفة للمشاكل المحتملة المتعلقة بالترجمة

اكتساب التكافؤ المفاهيمي

احد الصعوبات الرئيسية في أي نوع من البحوث التي تختلف فيها لغة الناس قيد الدراسة عن تلك التي سيُكتب بها تقرير البحث هي اكتساب التكافؤ المفاهيمي أو التقارب بين المعانى (Deutscher, 1968; Whyte and Braun, 1968; Sechrest et al., 1972; Temple, 1997). يرى فيليبس (Phillips, 1960:291) أن هذا يعتبر “بمصطلحات مطلقة مشكلة غير قابلة للحل” حيث تنتج من حقيقة أن “أي كلام بأي لغة تقريبا يحمل في طياته مجموعة من الافتراضات، والمشاعر، والقيم التي ربما قد يكون المتكلم على دراية بها أو لا، ولكن العامل في هذا المجال، كأجنبي، فعادة ليس لديه علم بها”. وما إذا كان المرء يحاول ترجمة أداة مسح، جدول مقابلة أو اختبار ما، وكما يحذرنا العديد من الباحثين، فحتى المصطلح أو التعبير الذي قد يبدو مألوفا ولديه مرادف مكافئ لفظي مباشر قد يحمل ‘دلالات عاطفية” في لغة ما ليست موجودة بالضرورة في لغة أخرى. وخير مثال على هذه الحالة هو تعبير “الخدمة العقلية المدنية”. على الرغم من أن هذا التعبير، كما يمكن للمرء أن يجادل، يستحضر ‘صورة’ مماثلة في العديد من الثقافات (على سبيل المثال، أن الناس الذين لديهم خدمة عقلية مدنية، كما يقول موسى ورامسدن (Moses and Ramsden, 1992:102): “ملاحظون جدا لحقوقهم “)، وقد لا يكون من السهل على القارئ الإنجليزي أن يلتقط الآثار الكاملة التي تحملها العبارة بالعربية إلا إذا كانت مصحوبة بمعلومات ثقافية حول القرائن والدلالات (السلبية) التي يحملها هذا المصطلح في السياق الليبي مثلا.

أما في المواقف التي لا تقدم فيها اللغتين تكافؤ لفظي مباشر، فإن العديد من الباحثين واللغويين فيقترحون بأنه ينبغي توجيه جهود المرء نحو الحصول على التكافؤ المفاهيمي بدون الاهتمام بالتقارب المعجمي” (Deutscher, 1968:337; Whyte and Braun, 1968:121; Bassnett-McGuire, 1980; Overing, 1987; Broadfoot and Osborn, 1993; Temple, 1997:610). بالنسبة لكثير من الباحثين (Sechrest et al., 1972; Brislin et al., 1973; Warwick and Osherson, 1973) يمكن تسهيل عملية الحصول على التقارب بين المعاني إلى حد كبير ليس فقط بفهم الباحث (أو المترجم) المتقن للغة، ولكن كما يقول فري (Frey, 1970) أيضًا من خلال “المعرفة الوثيقة” للثقافة. وعندها فقط يمكن للباحث التقاط المضامين الكاملة التي يحملها مصطلح للناس قيد الدراسة ويتأكد من أن الدلالات الثقافية للكلمة تم توضيحها صراحة لقراء التقرير البحثي.

المقارنة بين التراكيب النحوية
وهناك نوع مختلف من مشاكل الترجمة الذي يحدث عندما تنطلب الجمل في لغة جمع البيانات تراكيب نحوية وبنيوية ليست موجودة في اللغة الإنجليزية. النمط البنائي، كما يشير إريكان (Ercikan, 1998:544)، هو احد السمات الأكثر صعوبة في النقل من لغة إلى أخرى. عندما تكون الجمل مقاومة للترجمة بسبب عدم التوافق بين اللغات من حيث التراكيب، يقترح باسنت ماجواير (Bassnett-McGuire, 1980:32) أن معنى الجمل “يمكن أن يترجم بشكل كاف إلى اللغة الإنجليزية حالما يتم تطبيق قواعد تراكيب اللغة الإنجليزية”. ومع ذلك، فإن مثل هذه العملية، كما يحذرنا ارفين وباور (Ervin and Bower, 1952:597-598)، تنطوي حتما على “إدخال معلومات زائفة أو فقدان معلومات”.

على الرغم من أن الحصول على التكافؤ النحوي والبنائي ليس شيئا يمكن الاستهانة به، فإنه يبدو أن الهدف الأهم للباحث المترجم يجب أن يكون تحقيق التكافؤ المفاهيمي.

جعل كلمات المشاركين في المتناول ومفهومة
وبالنظر إليها أحيانا على أنها الفرصة الوحيدة التي يجب فيها أن يرى قراء التقارير البحثية بأنفسهم ما يبدو عليه المشاركين (Wolcott, 1994)، فإن استخدام الاقتباسات المباشرة يستحق اهتماما كبيرا في المناقشات حول الترجمة. القرارات المتعلقة بترجمة الاقتباسات تعتمد بالطبع على الوظيفة المقصودة من الاقتباس في نص البحث وما إذا كان المرء ينظر إلى الكلمات المترجمة كاقتباس مباشر (Rossman and Rallis, 1998:162).

إن احد أول القرارات التي يتوجب على الباحثون أخذها عند ترجمة كلمات المشاركين هو ما إذا كان عليهم ترجمة نصوصهم “حرفيا” أو باستخدام “الترجمة الحرة”. ربما ينظر إلى الترجمة الحرفية (أي الترجمة كلمة بكلمة) على أنها عادلة أكثر في نقل ما قاله المشاركون و “تجعل القراء يفهمون العقلية الأجنبية بشكل أفضل” (Honig, 1997:17). وفي الوقت نفسه، مع ذلك، يمكن لهذه الممارسة أن تقلل من قابلية النص للقراءة، وهذا بدوره يمكن أن يختبر “صبر القراء وحتى قدرتهم على فهم ما يحدث”.

ومن ناحية أخرى، يحتاج الباحثون الذين يقررون اختيار الترجمة الحرة الأنيقة إلى التفكير في الآثار المترتبة على إنشاء الاقتباسات التي يمكن قرائتها جيدًا. فحتى في لغة المرء الأم، دائما ما ينطوي تحرير الاقتباسات على خطر تشويه معنى الشريك المخاطب (Rubin and Rubin, 1995:273)، ولذلك فإن الاقتباسات المترجمة تنطوي على مخاطر أكبر لفقدان المعلومات من النص الأصل.

استخدام المترجمين
في بعض الدراسات، لا يكون الباحث والمترجم أو المفسر هما الشخص نفسه و قد يكون هناك حتى أكثر من مترجم واحد مشارك في المشروع البحثي. قد يكون هؤلاء الأشخاص مترجمين محترفين، أو أناس يتكلمون لغتين وقد تكون لديهم معرفة بالموضوع قيد البحث (أو لا)، أو ناطقين أصليين يعملون لمساعدة الباحث في التواصل مع المشاركين الذين لا يتحدثون الإنجليزية.

كما يشير تمبل (Temple, 1997:614) إلى أن استخدام المترجمين والمترجمين الفوريين ‘ليس مجرد مسألة تقنية ولا تؤثر كثيرا على النتيجة. إنها نتيجة معرفية لأنها تؤثر فيما هو “موجود”. يقترح كلوكون (Kluckhohn, 1945) بأن هناك “ثلاثة مشاكل أساسية تنشأ عن استخدام المترجمين: أ) تأثير المترجم على المخبر. ب) تأثير المترجم في عملية التواصل. وج) تأثير المترجم على الترجمة “( quoted in Phillips, 1960:297). وبالتركيز على هذه الأخيرة، يجادل تمبل (Temple, 1997:608) بأن الباحثين الذين يستخدمون المترجمين بحاجة إلى الاعتراف باعتمادهم عليهم “ليس لمجرد الكلمات ولكن لمنظورهم إلى حد معين”. وبقيامهم بذلك، يحتاج الباحثون للمناقشة و “المجادلة” حول القضايا المفاهيمية مع مترجميهم باستمرار لكي يضمنوا تحقيق التكافؤ المفاهيمي (Temple, 1997:616).

تقنيات التعامل مع المشكلات المتعلقة بالترجمة
هناك عدة أساليب مهمة تساعد في القضاء على المشكلات المتعلقة بالترجمة. تشمل هذه الأساليب الترجمة للخلف والتشاور والتعاون كلما أمكن مع الآخرين أثناء عملية الترجمة وفي مرحلة ما قبل الاختبار أو التجريب (على سبيل المثال، المقابلات).

تنطوي الترجمة للخلف، التي تعتبر واحدة من أكثر التقنيات المستخدمة في مجال البحوث العابرة للثقافات، على البحث عن التكافؤ من خلال (أ) ترجمة المواد من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، (ب) إعادة الترجمة لهذه المواد إلى اللغة المصدر بشكل مستقل، و(ج) ‘المقارنة بين ترجمتي المواد في لغة المصدر حتى يتم توضيح النقاط الغامضة أو التناقضات في المعنى أو إزالتها “( Ercikan, 1998:545; Warwick and Osherson, 1973:30). على الرغم من أنها قد تكون مفيدة، كما يبين دويتشر (1968: 321) في تحديد الأخطاء الدلالية في الترجمات، فإن بعض الباحثين (Phillips, 1960; Sechrest et al., 1972; Broadfoot and Osborn, 1993) يجادلون بأن الترجمة للخلف هي أبعد ما تكون عن الحل المثالي ويمكن أن تخلق مشاكل جديدة. فعلى سبيل المثال، يمكن للترجمة للخلف أن “تغرس شعور زائف بالأمان لدى الباحث من خلال إظهار التكافؤ المعجمي الزائف” (Deutscher, 1968:322). ويمكن لإجراء الترجمة للخلف أن يستغرق وقتا طويلا جدا أيضا، وربما يتطلب تدخل أكثر من شخص واحد (أو قاموس) لكي يحقق نتائج جيدة.

يتضمن التشاور مع الآخرين، من ناحية أخرى، المناقشات حول استخدام ومعانى الكلمات التي تم تحديدها على أنها إشكالية للثنائيّ اللغة (Whyte and Braun, 1968; Brislin et al., 1973) أو جلوس عدد من الأشخاص حول الطاولة لوضع القرارات بشكل مشترك حول استخدام أفضل المصطلحات (Brislin et al., 1973:46). ويمكن أن يكون التعاون مع الآخرين أيضا على هيئة مجموعة من الباحثين من جميع البلدان المشاركة في الدراسة حيث يقومون معًا بتصميم البحث وأدواته.

سواء كان الباحث سيستخدم المقابلات أو الاستبيانات أو أي نوع آخر من الاختبارات، فإن الطريقة الأخرى للقضاء على المشاكل المتعلقة بالترجمة تشمل الاختبار القبلي أو تجريب أداة البحث في بيئة الثقافة المحلية. ؤيرى وارويك وأوشيرسون (Warwick and Osherson, 1973:33) أنه من المهم عندما الاختبار المسبق لأداة البحث، أن يتم سؤال المستطلعين ليس فقط لإعطاء إجاباتهم أو ردودهم ولكن أيضا حول تفسيراتهم لمعاني عناصر الأداة. كما يمكن للباحث بعد الانتهاء من بناء أداة الاستبيان أو التقييم، إن يحدد المشاكل من خلال تطبيق الأساليب الإحصائية (Hambleton, 1993; Ercikan, 1998).

بالنسبة لكثير من الباحثين، يعتبر الجمع بين بعض أو كل الأساليب المذكورة أعلاه أنه من أفضل وأنجع الطرق للتعامل مع المشكلات المتعلقة بالترجمة. و كما يجادل برسلن وآخرون (Brislin et al., 1973:51)، فإنه عند استخدام أساليب متعددة، يمكن تعويض ضعف أحد الطرق بنقاط القوة الموجودة في الأخريات.

الحاجة إلى جعل القرارات المتعلقة بالترجمة صريحة
كما هو معروف في جميع التحقيقات العلمية، يجب أن تتضمن تقارير البحوث التي تنطوي على استخدام أكثر من لغة واحدة على وصف شامل للقضايا والمشاكل المتعلقة بالترجمة والقرارات المعنية في مختلف مراحل العملية البحثية (Temple, 1997:613). بالإضافة إلى ذلك، يحتاج الباحثون إلى وصف الظروف التي جرت فيها الترجمة ومناقشة التقنيات التي استخدمت خلال عملية الترجمة. وبالمثل، إذا ما تم استخدام المترجمين في البحث، فإن القراء سيحتاجون لمعرفة من هم المترجمين ونوع الدور الذي لعبوه في جميع مراحل الشروع البحوث.

الخلاصة

عند جمع البيانات بلغة واحدة وتقديم النتائج في بلغة أخرى، يجب على الباحثين إتخاذ عدد من القرارات المتعلقة بالترجمة. وتشمل المسائل التي تستدعي اتخاذ قرارات محددة جدا الكلمات التي توجد في أحد اللغات ولكنها ليست موجودة في لغة أخرى، والمفاهيم التي ليست متساوية في الثقافات المختلفة، العبارات الاصطلاحية، أو الاختلافات بين اللغات في القواعد والتراكيب النحوية. هذه القرارات إلى جانب عوامل مثل، من هو الباحث أو مترجميه وما يعرفون أن له تأثير مباشر على جودة نتائج البحث والتقارير الناتجة عنها.

nv-author-image

فرج صوان

استاذ علم اللغة التطبيقي و اللغة الإنجليزية في جامعة طرابلس وعدد من الجامعات الليبية. حصل على الشهادة الجامعية والماجستير من ليبيا، وشهادة في تعليم اللغة الإنجليزية من جامعة سري البريطانية (Surrey)، ودرس برنامج الدكتوراه في جامعة إيسيكس ببريطانيا (Essex). نشر ثمانية كتب والعديد من المقالات والبحوث. مهتم بالملف الليبي والعربي والاسلامي بجميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نقترح عليكم
نبذة مختصرة تقدم هذه المقالة إرشادات حول كيفية كتابة أطروحة…
Cresta Posts Box by CP
إظهار شريط المشاركة
إخفاء شريط المشاركة